'في محاولة للكشف عن مصير الودائع العراقية في البنوك اللبنانية وسط أزمة إختفاء عشرات المليارات من الدولارات دون سابق إنذار نشر موقع الحرة بقلم أسرار شبارو تقريرا مفصلا أستند الى مجموعة حقائق وتصريحات كشفت فيه تبخر نحو ثمانية عشر مليار دولار من تلك الودائع بحسب متابعين للشأن المالي والمصرفي، بينها أرصدة غسيل أموال تابعة لأسماء شخصيات وجهات سياسية وإقتصادية عراقية من دون الافصاح عن هوياتها. وعلى مايبدو أنها ستظل طي الكتمان كون أصحابها يدركون جيدا بأن المطالبة بها علنا ستضعهم تحت طائلة المسائلة القانونية حول مصدر تلك الأموال وكيفية كسبها وتحويلها الى بيروت بطرق سرية. وتمكنت شبارو من الكشف عما يلي ...
تخطت أزمة المصارف الحدود اللبنانية، ووصلت شظاياها إلى العراق، مع تبخر ودائع بمليارات الدولارات، منها ما هو مثبت ومنها ما لا يزال في غياهب المجهول.
في الرابع من أبريل الماضي، أعلن النائب في إقليم كردستان العراق علي حمه صالح، عبر صفحاته على وسائل التواصل الاجتماعي، أنه أرسل، في عام 2015 رسالة، إلى رئيس حكومة إقليم كردستان مشيراً فيها إلى أن بيع النفط عبر شخصية بعينها أمر "خطير، لكن لم ينصتوا لي، وفي النتيجة تم تجميد ما يقارب من 650 مليون دولار في لبنان".
ولفت حمه صالح إلى أن "الأموال المجمدة، هي إيرادات نفط إقليم كردستان في حساب الشركة القبرصية الخاصة" بهذا الشخص الذي ذكر اسمه الكامل وجنسيته إلا أن موقع الحرة يمتنع عن كشف هويته بما أنه لم يتسن لنا التوصل إليه للرد على هذه الاتهامات.
في اليوم التالي، غرّد رئيس مركز "كلواذا" للدراسات والأبحاث، باسل حسين، عبر صفحته على "تويتر" مؤكداً أنه "بحسب مصادر، فإن الأموال العراقية المودعة في لبنان تبلغ ما بين 16 إلى 18 مليار دولار معظمها ناجم عن عمليات فساد جرت في العراق".وأضاف أن "المصارف اللبنانية سهلت عمليات الإيداع والتحويل للعراقيين في السنوات الماضية، وكانت تمثل مركزا ماليا لشركات ومسؤولين وسياسيين عراقيين".
وفي الشهر ذاته، أعلنت هيئة النزاهة الاتحادية العراقية عن نجاحها باسترداد أكثر من 9 ملايين دولار من مصارف لبنانية، حيث أفادت في بيان صادر عن دائرة الاسترداد أن "الرئيس الأول لمحكمة استئناف بيروت المكلَّف المنتدب؛ للنظر في قضايا الصيغة التنفيذيّة أصدر قراراً بتسليم مبلغ (9,384,499) دولاراً إلى الحكومة العراقية، إضافة إلى شقة في منطقة رأس بيروت"، كاشفة أن "الأموال التي تم تهريبها من قبل المدانة زينة سعود، كانت مودعة في خمسة مصارف لبنانية وبأسماء مستعارة".
وعملت الهيئة على هذا الملف منذ عام 2013، "بالتعاون والتنسيق مع الدائرة القانونية في وزارة العدل، عبر التحرّي عن أموال المُدانة بعد التوصل إلى وجود حسابات مصرفية لها خارج العراق"، مشيرة إلى أنه "تم توجيه طلب مساعدة قانونية إلى السلطات القضائية اللبنانية، بغية تحصيل قرار بإعطاء الصيغة التنفيذية لقرار الإدانة الصادر عن المحاكم العراقية".
كما شرحت أن "القضاء اللبناني أصدر في بادئ الأمر قراراً بإحالة ملف القضية إلى قاضي تحقيق بيروت؛ بالاستناد إلى جنحة تبيض الأموال، تمهيداً لتجميدها ثم مصادرتها لمصلحة الحكومة اللبنانية"، موضحة أن "الهيئة وجهت محاميها في لبنان بضرورة استئناف تلك القرارات".
بعد تقديم طلبات وطعون للقضاء اللبناني، أصدر قراراً كما جاء في البيان "بمصادرة تلك الأموال المودعة في البنوك اللبنانية، والتي كانت تحت أسماء مستعارة، وتسليمها إلى الحكومة العراقية"، لافتة إلى "قيام الهيئة بالتنسيق مع وزارة المال والبنك المركزي العراقي؛ بغية تحويل الأموال إلى خزانة الحكومة العراقية".
وتحتجز المصارف اللبنانية أموال المودعين لديها من لبنانيين وأجانب منذ عام 2019، وتفرض قيوداً مشددة على السحوبات لاسيما بالعملات الأجنبية، على الرغم من عدم وجود أي نص قانوني يعطيها الحق في تلك الخطوة.
ويوم الأحد، أعاد رئيس مركز "كلواذا" الإضاءة على الأموال العراقية من خلال تغريدة محدداً فيها المبلغ المحتجز في المصارف اللبنانية، حيث كتب " 18 مليار دولار أموال عراقية تبخرت في مصارف لبنان. بخور السياسيين الفاسدين غالي كلش حتى أغلى من البخور الكمبودي. مال المي للمي ومال اللبن للبن".
وفيما لو كانت معلومات حسين مؤكدة بناء على وثائق حصل عليها، أجاب في حديث لموقع "الحرة" أن "مصدراً مصرفياً لبنانياً هو من كشف عن قيمة المبلغ لموقع ميديا لاين".
وتعود الأموال العراقية بمعظمها إلى "سياسيين عراقيين ينتمون إلى أحزاب" عدة بحسب ما يؤكد حسين، شارحاً "الكثير منها أموال ناتجة عن عمليات فساد، كون النموذج العراقي يتّبع النموذج الأفريقي في تهريب الأموال، والذي يقوم على سرقة أموال البلد واستثمارها خارجه".
ولفت إلى أن "بعد التضخم الكبير وهبوط قيمة العملة الإيرانية إثر الحصار، لم يعد العراقيون يثقون في المصارف الإيرانية، ليجدوا في المصارف اللبنانية وغيرها البديل، منها مصارف لندن، حيث سبق أن أضاءت صحيفة نيويورك تايمز على تهريب أموال عراقية إليها".
العام الماضي، كشف الرئيس العراقي برهم صالح، عن وجود "مؤشرات ومعطيات تخمن بأن ما لا يقل عن 150 مليار دولار من صفقات الفساد، تم تهريبها إلى الخارج منذ 2003.. هذه الأموال المستباحة كانت كفيلة بأن تضع البلاد في مكان أفضل"، معلناً عن تقديمه مشروع قانون لـ "استرداد عائدات الفساد"، إلى مجلس النواب.
ويصنف العراق ضمن الدول الأكثر فساداً في العالم، حيث احتل المرتبة 157 في "مؤشرات مدركات الفساد" الصادر عن منظمة الشفافية الدولية عام 2021.
كما يؤكد أستاذ علم الاقتصاد في جامعة البصرة، الدكتور نبيل المرسومي، أن الأموال العراقية الموجودة خارج البلاد بالمليارات، منها 40 مليار دولار مستثمرة في الأردن، في حين لا توجد أرقام دقيقة عن الودائع العراقية في المصارف اللبنانية.
ويقول لموقع "الحرة" "البعض يشير إلى أنها تصل إلى عشرة مليارات دولار، في حين يرفع مصدر في المصرف المركزي اللبناني المبلغ إلى 18 مليار دولار، من بينها مليار و300 مليون دولار للحكومة العراقية و650 مليون دولار لحكومة إقليم كردستان".
وتمكّن القطاع المصرفي اللبناني، الذي كانت أصوله تزيد عن 150 مليار دولار، كما يقول المرسومي "من جذب رؤوس الأموال على مدى سنوات، سواء من المستثمرين العرب أو المغتربين، حيث وجدوا في هذا البلد ملاذاً آمناً".
جزء كبير من الأموال العراقية في المصارف اللبنانية تدخل، بحسب أستاذ علم الاقتصاد، في إطار تبييض الأموال، ويشرح "ربما هرّبت الأموال لأسباب سياسية، باعتبار أن جزءاً مهماً من القطاع المصرفي اللبناني هو تحت هيمنة أو إشراف أو سيطرة حزب الله، لذلك نجد أن مبالغاً كبيرة تعود لشركات ومسؤولين عراقيين مسجلة بأسماء زوجاتهم أو بناتهم أو حتى بأسماء بعض اللبنانيين".
وكان موقع "ميديا لاين" نقل عن موظف سابق بالسفارة العراقية في لبنان، يدعى أحمد (اشترط عدم ذكر اسمه الكامل)، أنه شاهد في عمله تحويل العديد من الأموال العراقية إلى لبنان.
وأوضح أن "المصارف اللبنانية كانت تدفع فائدة تزيد عن 5 في المئة، وهو ما دفع السياسيين العراقيين لإيداع أموالهم فيها" وبأن "شركات متخصصة مرتبطة ضمنياً بحزب الله أشرفت على تحويل الأموال وأدارت الحسابات المصرفية لسياسيين عراقيين في لبنان".
لكن لماذا لا تتم المطالبة بهذه الأموال؟ عن ذلك أجاب المرسومي "إما بسبب إفلاس المصارف اللبنانية، وفي هذه الحالة يتم اللجوء إلى ما يسمى بقسمة الغرماء، بمعنى قسمت ما تبقى من سيولة على المودعين، أو لأن أصحاب الحسابات الحقيقية لا يريدون الكشف عن هويتهم، لتجنب مساءلتهم عن كيفية حصولهم على هذه المبالغ وإخراجها من البلد وإيداعها في المصارف اللبنانية".
'دعاوى قضائية
لدى حكومة إقليم كردستان رقم محدد لأموالها في مصارف لبنان، وهي تستند في ذلك، كما يقول النائب صالح لموقع "الحرة"، إلى تقارير الشركة العالمية "ديلويت"، التي تدقق بحسابات عائدات نفط إقليم كردستان، وهو "294 مليون دولار و310 ملايين يورو" أودعها الشخص الذي ذكر في أول التقرير في أحد المصارف اللبنانية.
وكانت شركة "ديلويت" ذكرت في تقريرها للربع الأول من عام 2021، حول الصادرات والاستهلاك والنفقات والإيرادات النفطية (ملاحظة رقم 10) أنه "من واحد يناير 2021، تمت إعادة تصنيف مبلغ وقدره 310 مليون يورو التي سبق أن دفعها مشتر واحتفظ بها في حساب ضمان مصرفي في لبنان، كدفعة مقدمة لم يتم الإبلاغ عن هذا المبلغ حتى الآن في صافي الحركة في أرصدة حساب المشتري أو الرصيد الإجمالي المستحق من حكومة إقليم كردستان للمشترين، حيث لم يتم الإفراج عن الأموال إلى حكومة إقليم كردستان بعد".
وأضافت "تواصل البنوك في لبنان تقييد حركة العملات الأجنبية خارج البلاد بالإضافة إلى هذا المبلغ 310 مليون يورو، لا يزال المبلغ 294 مليون دولار من عائدات النفط لحكومة إقليم كردستان محتجزاً أيضاً في حساب مصرفي في لبنان".
وفي تقريرها للربع الأخير من العام 2021، ذكرت "ديلويت" في الملاحظة رقم 10: لا يزال مبلغ 294 مليون دولار أميركي و310 مليون يورو من إيرادات النفط لحكومة إقليم كردستان محفوظة في حسابات مصرفية في لبنان ولا زالت المصارف في لبنان تقيد حركة العملات الأجنبية إلى خارج البلاد".
تقرير "ديلويت" للربع الأخير من عام 2021
وكانت شركة "IMMS" أقامت دعوى قضائية ضد بنك البحر المتوسط في ولاية نيويورك الأميركية في 22 نوفمبر 2019، متهمة إياه بعدم رد وديعة بمليار دولار حين طلبتها.
وبعد نشر وكالة رويترز هذه المعلومات، أصدرت إدارة المصرف بياناً أوضحت من خلاله أن "الوديعة التي تبلغ قيمتها مليار دولار هي وديعة محظورة بموجب تعليمات من IMMS تستحق بعد حوالي عامين من الآن".
ولفتت إلى أنه "بين 30 تشرين الأول (أكتوبر) و12 تشرين الثاني (نوفمبر) 2019، اكتشف المخالفات المادية للعقد ومحاولات IMMS لتوجيه الأموال المستحقة لبنك البحر المتوسط في الخارج، مشيرةً الى أن المصرف عارض مثل هذه المحاولات من قبل IMMS واتخذ الإجراءات المناسبة".
وأكدت إدارة المصرف أنه "وفقاً للعقود تخضع العلاقة بين المصرف وIMMS للقانون اللبناني وللولاية القضائية الحصرية للمحاكم اللبنانية، وبدأت IMMS بالفعل رفع دعوى في بيروت في 14 نوفمبر 2019"، مشددة على أنه "يظل بنك البحر المتوسط ملتزماً بمعاييره المصرفية العالية وحماية مصالح عملائه وتطبيق القوانين والممارسات اللبنانية وفقاً لما تقتضيه الظروف الحالية".
'ودائع مثبتة
معظم الودائع العراقية في المصارف اللبنانية تعود إلى نظام الرئيس العراقي السابق، صدام حسين، بحسب المحامي حسن بزي، الذي أكد أن الودائع المثبت وجودها في مصارف لبنان تقدر بـ 7 مليارات دولار، لكن في ذات الوقت هناك ودائع لا أحد يعلم بها كون الرئيس صدام حسين لم يكن يضع الأموال في المصارف باسم الدولة العراقية، بل بأسماء بعض الأفراد وقيادات حزب البعث في العراق ولبنان.
وتقدمت جمعية "الشعب يريد إصلاح النظام" بإخبار أمام النيابة العامة الاستئنافية في جبل لبنان، كون الودائع العراقية هي من ضمن الأموال التي فقدت من المصارف اللبنانية والتي هي موضوع تحقيق أمام القاضية غادة عون بناءً على شكوى مقدمة من الجمعية أيضاً، على الرغم من أن هذه الأموال العراقية كانت محجوزة كما يقول بزي لموقع "الحرة" "بأمر من هيئة التحقيق المصرفية الخاصة ومن النيابة العامة المالية، ما يعني أنها لم تكن تنتج فوائد، و لكن تبين أن المصارف اللبنانية أساءت الأمانة، حيث اقرضتها واستفادت منها وفي النهاية اختفت مع باقي الودائع" .
إضافة إلى كونه عضوا في جمعية "الشعب يريد إصلاح النظام" ورئيسها، فإن بزي هو وكيل أحد المودعين العراقيين، الذي يمتلك مورثه 300 مليون دولار موزعة على ثلاثة مصارف لبنانية، ويشرح "كان والد موكلي قيادياً في النظام البعثي، وبعد وفاته بحث ابنه في الحسابات المالية العائدة له، فاكتشف هذه الودائع التي للأسف لا يمكن استعادتها، بعد تبخر الأموال في المصارف".
وتتابع الحكومة العراقية قضية ودائعها، وقد استعادت عدداً منها، إذ كلما كشفت عن وديعة تعود لها، تعمل كما يقول المحامي على استردادها، "من هنا يمكن تفسير حالة التكتم من قبل أصحاب الحسابات التي سبق أن وضعها الرئيس صدام حسين بأسمائهم، خوفاً من وضع حكومتهم اليد عليها".
وكانت السلطات العراقية سنت قانونا أوكلت بموجبه للهيئة الوطنية العليا للمساءلة والعدالة "الإسهام في الكشف عن الأموال التي استحوذ عليها أعوان النظام البائد بطرق غير مشروعة داخل العراق وخارجه وإعادتها إلى الخزينة العامة".
وفي أغسطس من العام 2018، أعلنت جمعية المصارف اللبنانية تحويل أموال كانت بحوزتها لحكومة صدام حسين إلى السلطات العراقية عبر البنك الفدرالي الأميركي، وقال رئيس الجمعية جوزف طربيه حينها "جرى تحويل هذه الودائع الى البنك الفدرالي الأميركي لوضعها في حساب البنك المركزي العراقي بإشراف السلطات العسكرية والبنك المركزي اللبناني".
من جانبه، ينفي الرئيس السابق للجنة الرقابة على المصارف، سمير حمود، أن يكون الرقم الذي يتم تداوله (18 مليار دولار) صحيحاً، مشدداً على أنه مضخم بشكل كبير، وعن أسماء المودعين العراقيين أجاب "يمنع القانون اطلاعنا عليها، إلا إذا كان الشخص مشتبهاً به".
وتعتمد المصارف اللبنانية قانون السرية المصرفية الذي يمنع كشف أي معلومات ترتبط بحسابات الأفراد، الا بحالات معينة، منها في حالة الاشتباه في استخدام الأموال لغاية تبييضها، إذ عندها ترفع السرية المصرفية بقرار من هيئة التحقيق الخاصة لمصلحة المراجع القضائية المختصة والهيئة المصرفية العليا، وذلك عن الحسابات المفتوحة لدى المصارف أو المؤسسات المالية.
سبق أن واجهت المصارف اللبنانية عدداً كبيراً من عمليات الاحتيال كما يؤكد حمود في حديث لموقع "الحرة"، شارحاً "هناك أشخاص كثر ادعوا امتلاكهم وثائق تفيد بأحقيتهم بأرصدة في المصارف اللبنانية، تعود لعهد صدام حسين، ليثبت بعدها أنها مزورة، منهم من عرض التخلي عن 30 و40 وحتى 50% من قيمة الوديعة مقابل الحصول عليها".
وعن مصير الودائع العراقية في المصارف اللبنانية، لا يستبعد المرسومي وجود مباحثات سرية بين الجانبين المعنيين، كذلك لا يستبعد أن تحصل مقاصة، باعتبار أن العراق يصدّر إلى لبنان مليون طناً من النفط الأسود".