'بعيد
الانتهاء من إجراء الانتخابات المبكرة في العراق وكما هو متوقع ظهرت أزمة تسمية
الكتلة البرلمانية الأكبر لتعيد للإذهان أزمة 2010 بين دولة القانون
بزعامة نوري المالكي والقائمة العراقية بزعامة اياد علاوي. في 2010 وبرغم
تأخر الحسم انهت المحكمة الاتحادية الخلاف الناشب بقولها أن الكتلة الأكبر عددا هي
التي تسجل خلال انعقاد الجلسة الأولى للبرلمان الجديد وليس القائمة الفائزة بأكبر
عدد من المرشحين.
إلا
أننا هنا أمام سلسلة خلافات حادة بين القوى السياسية الفائزة بالانتخابات
وتلك المتحكمة بالمشهد السياسي القائم... مما زاد الازمة تعقيدا وبالتالي خلق حالة
إنسداد سياسي شبه محكم...
الباحثة
متخصصة فى الشؤون السياسية العربية ورئيس تحرير دورية بدائل – مركز الاهرام
للدراسات السياسية والاستراتيجية صافيناز محمد أحمد تناولت جدلية الكتلة
البرلمانية الأكبر وأثرها في تطورات المشهد السياسي العراقي تحت عنوان :
'
" تطورات المشهد السياسي وجدلية الكتلة البرلمانية الأكبر.
▪︎ ما بين انعقاد الجلسة الأولى للبرلمان العراقى الجديد التى سميت
إعلامياً بـ"جلسة الأكفان" فى التاسع من يناير 2022، وزيارة قائد فيلق
القدس بالحرس الثورى الإيرانى إسماعيل قاآنى لبغداد فى السابع عشر من الشهر نفسه،
بدا المشهد السياسى فى العراق أكثر تعقيداً على وقع تجاذبات القوى السياسية لتشكيل
الحكومة الجديدة، وذلك على خلفية الانتخابات التشريعية التى جرت فى العاشر من
أكتوبر 2021، وأسفرت عن تصدر تيار الصدر الشيعى لنتائجها بحصوله منفرداً على 73
مقعداً، إلى جانب فوز التيارات السنية والكردية والمستقلين، مقابل تراجع حاد
لنتائج تيارات شيعية أخرى وازنة من الأحزاب الدينية التقليدية المحسوبة على إيران؛
كتيار الفتح لهادى العمرى، وتحالف قوى الدولة الوطنية لعمار الحكيم وحيدر العبادى،
وغيرها من القوى الشيعية الأخرى، باستثناء حزب إئتلاف دولة القانون لنورى المالكى
الذى أحرز 37 مقعدا.
وقد
شكلت هذه الأحزاب ما يسمى بـ"الإطار التنسيقى" الذى ضم كافة القوى
السياسية الشيعية المعترضة على نتائج الانتخابات، بالإضافة إلى تيار دولة القانون،
وتولت مناهضة تيار الصدر سياسياً فيما يتعلق بإجراءات تشكيل الكتلة البرلمانية
الأكبر التى تتولى اختيار رئيس الوزراء الجديد وتشكيل الحكومة، لاسيما بعد أن أعلن
مقتدى الصدر أنه بصدد تشكيل حكومة أغلبية سياسية (حكومة من الأحزاب الفائزة فى
الانتخابات)، وليس حكومة "توافقية" (حكومة محاصصة طائفية وحزبية).
تطورات
نوعية
المعطيات
السابقة تعكس تطوراً نوعياً جديداً على مشهد التفاعلات الحزبية السياسية فى العراق
منذ عام 2003 وحتى الآن؛ مؤداه حدوث انقسام سياسى حاد داخل التيار السياسى الشيعى
يكاد يترجم فى معادلة جديدة تشير إلى أن العراق قد يشهد وللمرة الأولى انقسام هذا
التيار إلى طرفين أحدهما فى السلطة والآخر فى المعارضة (موالاة ومعارضة). هذه
المعادلة كادت أن تتحقق فى انتخابات عام 2018 والتى أسفرت عن تقدم تيار الصدر
حينها بـ53 مقعداً، لكن إيران وقتها تدخلت بقوة لرأب الصدع بين تيار الصدر
وباقى مكونات التيار السياسى الشيعى، ونجحت فى "إجبار" الصدر على القبول
بحكومة "توافقية" بدلاً من حكومة "أغلبية سياسية"، وذلك فى ظل
ظروف عراقية داخلية وأخرى إقليمية مغايرة نسبياً للواقع السياسى الراهن.
فحالياً؛
ثمة متغيرات عديدة اعترت المشهد السياسى العراقى على مدار الأعوام الثلاثة الماضية
ساهمت فى ازدياد حظوظ تيار الصدر السياسية؛ كان أبرزها دوره الشعبى المساند
للاحتجاجات الجماهيرية العارمة التى شهدها العراق عام 2019، والتى أجبرت إيران على
التغاضى عن استقالة رئيس الوزراء عادل عبد المهدى، والرضوخ لمطالب الشارع فى إبعاد
منصب رئيس الوزراء عن قاعدة المحاصصة الطائفية، وترجم ذلك فعلياً فى تولى مصطفى
الكاظمى رئاسة الوزراء، الذى نال دعماً كبيراً من قبل تيار الصدر ما ساعده، خلال
العامين الماضيين، على إحداث تغيير نسبى فى سياسات العراق على الصعيدين الداخلى
والخارجى، كان أبرزها استقلالية القرار العراقى - بصورة نسبية - بعيداً عن إيران
خاصة فى إدارة العلاقات الإقليمية ما بين إيران والولايات المتحدة والدول العربية،
فضلاً عن محاولاته الإصلاحية بشأن محاربة الفساد ودعم الإصلاح الإدارى. من هذا
المنطلق تتخوف قوى الإطار التنسيقى الشيعى من إعادة الصدر – حال تشكيله حكومة
أغلبية سياسية - اختيار الكاظمى فى منصب رئاية الوزراء لاستكمال ما بدأه خلال
العامين المنصرمين.
على
هامش هذه المعطيات يأتى الاحتقان السياسى بين تيار الصدر وبين نظرائه من قوى
الإطار التنسيقى الشيعى من ناحية، وبين الأخيرة وكل من القوى السنية والكردية من
ناحية ثانية، ليأخذ صوراً متعددة بدأت بمشاهد التجاذب بين تلك القوى مع عقد
البرلمان الجديد أولى جلساته؛ وتحديداً مشهد ارتداء أعضاء التيار الصدرى
"الأكفان" فى دلالة رمزية على استعدادهم لمواجهة المخاطر السياسية،
ومشهد الفوضى البرلمانية بشأن اختيار رئيس البرلمان، والأخير تحديداً عكس مدى حالة
الاحتقان السياسى التى تكتنف العلاقة بين القوى السياسية العراقية فى مرحلة ما بعد
الانتخابات الأخيرة.
فقد
نجح التيار الصدرى وبدعم من القوى السنية – تحالفى تقدم وعزم – والحزب الديمقراطى
الكردستانى فى إعادة انتخاب محمد الحلبوسى رئيساً للبرلمان؛ حيث حصل على 200 صوتاً
من إجمالى عدد الأعضاء الذين حضروا الجلسة وبلغ عددهم 228، وذلك على حساب محمود
المشهدانى المدعوم من قوى الإطار التنسيقى، وحصل على 13 صوتاً فقط، مع بطلان 14
صوت.
وشهدت
فعاليات اللقاء البرلمانى الأول بعد الانتخابات تعرض المشهدانى –الذى كان يرأس
الجلسة باعتباره أكبر الأعضاء سناً– لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ولم
يؤد ذلك إلى توقف الجلسة، بل استكملت إجراءاتها برئاسة النائب خالد الدراجى- كبير
السن الاحتياطى الثانى- لاختيار رئيس البرلمان، وهو ما اعتبرته قوى الإطار
التنسيقى خرقاً للقواعد الإجرائية لأولى جلسات البرلمان، وطعنت عليه لدى المحكمة
الاتحادية العليا، واعتبرت بمقتضى ذلك بطلان اختيار الحلبوسى فى منصبه، بمعزل عن
إدارة رئيس السن محمود المشهدانى للجلسة الأولى للبرلمان.
وتوازى ذلك مع سعى قوى الإطار التنسيقى لإعلان نفسها الكتلة
البرلمانية الأكبر لإدارة الجلسة الأولى للبرلمان بتوقيع 88 نائباً، بينما تقدم
تيار الصدر بطلب مماثل موقعاً من قبل 78 نائباً. ووفقاً لمحللين، فإن المادة 50 من
الدستور العراقى تشير إلى أن مهمة رئيس البرلمان المنتخب فى جلسته الأولى –أكبر
الأعضاء سناً– هى "افتتاح الجلسة وأداء القسم وفتح باب الترشيح لاختيار رئيس
المجلس ونائبيه"، وبالتالى ليس من مهامه تحديد وتسمية الكتلة البرلمانية
الأكبر. ومن ثم تصبح الفوضى التى شهدتها الجلسة الأولى للبرلمان من قبل القوى
المحسوبة على الإطار التنسيقى الشيعى مقصودة؛ بهدف تعطيل إعادة انتخاب الحلبوسى
كرئيس للبرلمان، فى محاولة لخلط الأوراق وإرباك التيار الصدرى وحلفاءه من التيارات
السنية، على هامش معارك تشكيل الكتلة البرلمانية الأكبر.
وتضغط
قوى الإطار التنسيقى المدعومة إيرانياً على تيار الصدر لحمله على تشكيل حكومة
توافقية، تضمن لقوى التيار – التى تراجعت نتائجها انتخابياً – حظوظاً يعتد بها حال
تشكيل تلك الحكومة؛ لأنها ستتم وفقاً لمحاصصة طائفية حزبية مزدوجة على عكس ما يرغب
زعيم التيار مقتدى الصدر، الذى يريد حكومة تتشكل من القوى الحزبية الفائزة فى
الانتخابات باعتبارها تجسيداً فعلياً لتوجهات الناخبين، وتوجهات الحراك الاحتجاجى
المستمر فى الشارع العراقى، هذا بخلاف ما توفره حكومة الأغلبية الوطنية من هامش
استقلالية كبير نسبياً فى صياغة القرار السياسى وتنفيذه، بعيداً عن حسابات المصالح
الداخلية والخارجية التى تفرضها حالة وجود حكومة توافقية.
واتجهت
قوى الإطار التنسيقى عبر ميليشياتها المسلحة إلى ممارسة ما يمكن تسميته بـ
"الضغوط القصوى" على تيار الصدر وحكومة تسيير الأعمال برئاسة الكاظمى؛
بشنها عدداً من الهجمات المسلحة على مقار حزبية تابعة لحلفاء التيار الصدرى من
الأكراد والسنة؛ حيث تعرض مقر الحزب الديمقراطى الكردستانى فى العاصمة بغداد إلى
هجوم بقنبلة يدوية، كما تعرضت مقار حزبية تابعة لتحالفى عزم وتقدم السنيين لهجوم
بطائرات مسيرة، ورغبت قوى الإطار بهذه الهجمات في توصيل رسالة سياسية لخصومها من
الصدريين والسنة مؤداها أنها لن تسمح بعزلها عن التشكيل الحكومى الجديد من ناحية،
ولا عن دورها عبر آلية "التوافق" فى اختيار رئيس الحكومة الجديدة من
ناحية ثانية.
ولم
تقتصر حالة الاحتقان السياسى على المكون الشيعى – حالة الخلاف الحاد بين قوى
الإطار التنسيقى وبين تيار الصدر- بل انسحبت كذلك على المكون السياسى الكردى بشأن
ترشيحاته لشغل منصب رئيس الجمهورية، فحتى كتابة هذه السطور، لم تنجح القوى
السياسية الكردية فى حزم أمرها تجاه مرشح واحد لشغل المنصب؛ فهناك عدة مرشحين:
الرئيس الحالى برهم صالح، ولطيف رشيد كمرشحين عن حزب الاتحاد الكردستانى، وهوشيار
زيبارى كمرشح عن الحزب الديمقراطى، ورزكار أمين قاضى محكمة الرئيس الأسبق صدام
حسين – كمرشح مستقل– ويحظى أيضاً بقبول الحزب الديمقراطى الكردستانى.
ويدفع
حزب الاتحاد الكردستانى بقوة نحو تصعيد مرشحه؛ حيث ينظر الحزب إلى منصب الرئيس
باعتباره دلالة رمزية لرئيسه التاريخى جلال طالبانى، ولثقل الحزب ودوره السياسى فى
إقليم كردستان من ناحية، وعلى المستوى الاتحادى من ناحية ثانية. ومن ثم فمن
المتوقع، فى حالة ذهاب المنصب إلى أحد مرشحى الحزب الديمقراطى الكردستانى، أن
تتأجج حالة الانقسام السياسى داخل المكون الكردى على غرار نظيره الشيعى، وهذا
سيؤدى إلى مزيد من الصراع السياسى متعدد الحلقات بما يدفع نحو مزيد من التعقيد فى
المشهد الحزبى العراقى، هذا بخلاف ما سيترتب على ذلك من عودة الخلافات الحادة –
السياسية والعسكرية - داخل إقليم كردستان نفسه بين الحزبيين الكردستانيين، ما يعيد
التذكير بأجواء انقسام الإدارة الكردية العراقية إلى إدارتين وحكومتين إحداهما فى
أربيل (الحزب الديمقراطى) والأخرى فى السليمانية (حزب الاتحاد).
جدلية
الكتلة البرلمانية الأكبر
بعد
كل انتخابات تشريعية فى العراق يتجدد الجدل القانونى والسياسى حول "الكتلة
البرلمانية الأكبر" التى يحق لها تشكيل الحكومة الجديدة، لاسيما وأن الدستور
العراقى لم يتعرض لتفاصيل تعريف تلك الكتلة، وآليات تشكيلها. وتركز الخلاف بشأن
تحديد "الكتلة البرلمانية الأكبر" حول هل هى الكتلة الفائزة فى
الانتخابات بأكثر عدد من الأصوات، دون النظر لأى كتل تتشكل عبر التحالفات بعد
إعلان نتائج الانتخابات، وبالتالى يكون من حقها ترشيح رئيس الوزراء لتكليفه من قبل
رئيس الجمهورية بتشكيل الحكومة وفقاً لنص المادة 76 من الدستور، أم هى الكتلة التى
يمكن تشكيلها من تحالفين أو أكثر بعد إعلان نتائج الانتخابات وتكون هى الأكثر
عدداً؟
فوفقاً
لنص المادة 76 من الدستور، فإن رئيس الجمهورية يكلف مرشح الكتلة النيابية الأكثر
عدداً بتشكيل الحكومة خلال 15 يوماً من تاريخ انتخاب رئيس الجمهورية. كما جاءت
المادة 45 من قانون الانتخابات الجديد عام 2020، لتؤكد على "عدم أحقية أى
نائب أو حزب أو كتلة مسجلة ضمن قائمة مفتوحة فائزة بالانتخابات الانتقال إلى
ائتلاف أو حزب أو كتلة أو قائمة أخرى إلا بعد تشكيل الحكومة بعد الانتخابات
مباشرة، دون أن يخل ذلك بحق القوائم المفتوحة أو المنفردة المسجلة قبل إجراء
الانتخابات من الائتلاف مع قوائم أخرى بعد إجراء الانتخابات". وكلا النصين
يحكمان تحديد الكتلة البرلمانية الأكبر؛ حيث ينظر البعض إلى المادة 45 من قانون
الانتخاب كنص غير دستورى باعتباره يتدخل فى تنظيم مسألة دستورية نصت عليها المادة
76، على قاعدة أنه لا يجوز لنص قانونى أن يتعارض مع نص دستورى. كما يلاحظ أيضاً أن
المادة 76 لم تذكر "الكتلة الانتخابية" ولكن ذكرت "الكتلة
النيابية" أى أن الكتلة البرلمانية الأكبر لا يشترط أن تكون من القوى الفائزة
فى الانتخابات، وهو ما استندت عليه عمليات التشكيل الحكومى منذ عام 2006 وحتى عام
2018.
وحاولت المحكمة الاتحادية القفز على تلك الإشكاليات القانونية بإصدار
قرار فى 22 ديسمبر عام 2020 – مبنى على قرارها فى الشأن نفسه عام 2010 - يقضى بأن
" الكتلة الأكثر عدداً تعنى إما الكتلة التى تكونت بعد الانتخابات من خلال
قائمة انتخابية واحدة، أو الكتلة التى تكونت بعد الانتخابات من قائمتين أو أكثر من
القوائم الانتخابية، ودخلت مجلس النواب، وحلف أعضاؤها اليمين الدستورية فى الجلسة
الأولى الأكثر عدداً من بقية الكتل".
قرار
المحكمة الاتحادية بشأن تحديد مفهوم الكتلة البرلمانية الأكبر بالصيغة السابقة كان
هو المخرج الذى اتكأت عليه القوى الشيعية التقليدية فى محطتين انتخابيتين: الأولى،
انتخابات عام 2010 التى بمقتضاها فقد إياد علاوى زعيم القائمة العراقية أحقيته فى
تشكيل الكتلة البرلمانية الأكبر بالرغم من حصوله على 92 مقعداً، لصالح نورى
المالكى الحاصل على 89 مقعداً، بعد أن نجح الأخير فى تكوين تحالف برلمانى ضم 140
عضواً.
والثانية، انتخابات عام 2018؛ حينما تقدم تحالف سائرون لمقتدى الصدر
فى نتائج الانتخابات على تحالفات الإصلاح والإعمار وتحالف البناء، لكنه اضطر إلى
التحالف مع تيار البناء والتوافق معه بشأن تشكيل الحكومة – حكومة عادل عبدالمهدى-
التى فشلت فى إدارة الدولة وسقطت على وقع احتجاجات الجماهير فى عام 2019. وهذا
يعنى أن قانون الانتخابات الجديد لعام 2020 لم يتعرض بصورة حاسمة لمفهوم الكتلة
البرلمانية الأكبر، كما أن قرار المحكمة الاتحادية فى ديسمبر 2020 بشأن تحديدها لم
يتغير عن قرارها فى عام 2010.
انطلاقاً
من المعطيات القانونية السابقة، فإن الكتلة البرلمانية الأكبر – 165 عضواً – التى
يحق لها تشكيل الحكومة من الناحية الدستورية، هى الكتلة الفائزة فى الانتخابات
بأكبر عدد من مقاعد البرلمان، أو المكونة من تحالف كتلتين أو أكثر قبل عقده جلسته
الأولى. هذا بالنسبة للنص القانونى، أما الواقع فيقول بأن العراق على مدار المسار
الانتخابى البرلمانى لم يشهد تكوين حكومة أغلبية سياسية، ولكن تتشكل الحكومة وفقاً
لمعايير المحاصصة السياسية الطائفية - بصورة غير دستورية - عبر آلية التوافق وليس
آلية النص الدستورى، وهو ما سبب دائماً خلافاً جوهرياً بشأن تشكيل الكتلة
البرلمانية الأكبر، وهو أيضاً ما يحاول تيار الصدر تجاوزه بإنفاذ آلية الأغلبية
السياسية الوطنية فى تشكيل الحكومة، وليس آلية التوافق السياسى.
ووفقاً
لخيار الصدر -الحاصل على 73 مقعداً- بشأن تشكيل حكومة أغلبية سياسية؛ فبإمكانه
تشكيل الكتلة البرلمانية الأكبر بتحالفه الذى بات حقيقة واقعية مع التيار السنى –
تحالف تقدم للحلبوسى 37 مقعداً وتحالف عزم لخميس خنجر 14 مقعداً – بالإضافة إلى
التحالف الكردى بحزبيه (الحزب الديمقراطى الكردستانى 31 مقعداً وحزب الاتحاد 17
مقعداً)، بخلاف مقاعد بعض المستقلين من أعضاء تيارات الحراك التشرينى (30 مقعداً).
وتكمن مشكلة هذا التحالف فى الخلاف الجديد بين حزبى التحالف الكردى
على هامش ترشيحات الحزبين لمنصب رئاسة الدولة كما سبقت الإشارة إليه؛ وهذا يعنى
أنه فى حالة إصرار الحزب الديمقراطى على منافسة حزب الاتحاد بشأن المنصب المذكور –
جرى العرف أن يكون رئيس الدولة كردياً من حزب الاتحاد – فمن المحتمل ألا يشارك
الحزب الديمقراطى فى تحالفات الصدر إذا ما قرر الأخير دعم حزب الاتحاد، لاسيما بعد
اتجاه مقتدى الصدر نحو إعادة اختيار برهم صالح – حزب الاتحاد - كرئيس للدولة، على
خلفية عدة مواقف سياسية ساند فيها صالح حالة الحراك الجماهيرى، وسياسات الإصلاح
المالى والإدارى التى اجتهد رئيس الوزراء - المنتهية ولايته - مصطفى الكاظمى فى
تنفيذها. مقابل هذا التحالف ثمة تحالف آخر يضم قوى الإطار التنسيقى الشيعى
المعترضة من الأساس على مخرجات العملية الانتخابية، وهى: تيار القتح لهادى العمرى،
وائتلاف دولة القانون لنورى المالكى، وائتلاف وطنية لعمار الحكيم وحيدر العبادى.
وفى
حالة نجاح الصدر فى تشكيل حكومة أغلبية وطنية سيكون التيار السياسى الشيعى منقسماً
فعلياً لقسمين: تيار الصدر فى السلطة منفرداً بتحالفاته النوعية مع السنة
والأكراد، وقوى الإطار التنسيقى الشيعى فى المعارضة. هذا السيناريو تشوبه احتمالات
بعدم إمكانية تحقيقه فى حالتين: الأولى، إصرار إيران على توحيد صفوف التيار
السياسى الشيعى على غرار ما فعلته فى الانتخابات السابقة عام 2018، ويلاحظ
أن حظوظ هذه الحالة باتت ضعيفة.
والثانية؛
حال نجاح الصدر فى جذب تيار الفتح لهادى العمرى – الحشد الشعبى – بعيداً عن
تحالفاته النوعية مع ائتلاف دولة القانون لنورى المالكى فى ضوء حالة الخلاف
الجوهرى بين الأخير وبين تيار الصدر. وفى هذه الحالة يدخل تيار الفتح فى التشكيل
الحكومى، ويبقى ائتلاف دولة القانون فى المعارضة. و"ربما" يكون هذا
السيناريو البديل الوحيد أمام إيران لدعمه حال استمرار إصرار مقتدى الصدر على عدم
تشكيل حكومة توافق. لكن السيناريو نفسه يتوقف حدوثه على اشتراط مقتدى الصدر أن
يسلم تيار الفتح أسلحة الحشد الشعبى للمؤسسة الأمنية والعسكرية النظامية، مع
ملاحظة أن جذب تحالفات الصدر البرلمانية لتيار الفتح من شأنه أن يضمن للصدر تمرير
حكومة أغلبية سياسية دون عوائق نوعية سياسية كانت أو أمنية، ويضمن لتيار الفتح
تمثيلاً حكومياً؛ لاسيما بعد فشله مرتين الأولى فى الحصول على ثقة المقترعين
بتراجع نتائجه بصورة حادة. والثانية فى الضغط على الصدر تجاه إشراك كامل مكونات
الإطار التنسيقى فى التشكيل الحكومى المأمول.
زيارة
قاآنى
وسط
تطورات المشهد السياسى العراقى، بالكيفية السابقة، قام قائد فيلق القدس بالحرس
الثورى الإيرانى إسماعيل قاآنى بزيارة للعراق فى السابع عشر من يناير الجارى،
بدأها بالنجف الأشرف ثم توجه للعاصمة بغداد. وتأتى الزيارة ضمن محاولات إيران لرأب
الصدع بين المكون الشيعى على خلفية التشابك السياسى بين قوى الإطار التنسيقى، وبين
تيار الصدر من ناحية، وتقريب وجهات النظر بين الطرفين بشأن التشكيل الحكومى المقبل
من ناحية ثانية. الزيارة تزامنت مع اجتماع قوى الإطار التنسيقى لمناقشة نتائج
اجتماع تم بين مقتدى الصدر وهادى العمرى رئيس تحالف الفتح فى سياق التشاور بشأن
تشكيل الحكومة. وكان من أهم نتائجه "إصرار" الصدر على تشكيل حكومة أغلبية
سياسية دون أى بديل آخر، مع التلويح بإمكانية مشاركة تيار الفتح فى الحكومة بمعزل
عن ائتلاف دولة القانون كما سبقت الإشارة إليه.
كما
تزامنت زيارة قاآنى مع زيارة مماثلة قام بها مسئول الملف العراقى فى حزب الله
اللبنانى لمدينة النجف. ويلاحظ من نتائج تلك الزيارات أن إيران تحاول التعامل بقدر
من البراجماتية لملاحقة حالة التطورات المتسارعة التى يقودها مقتدى الصدر على
خريطة المشهد السياسى العراقى، ودراسة أقل الخسائر السياسية الممكنة والمحتملة حال
استمرار تمسكه بخيار حكومة الأغلبية السياسية، لاسيما بعد الأنباء التى تواردت بشأن
رفض الصدر مقابلة قاآنى فى النجف، ما أفضى إلى حالة من الارتباك على جدول مقابلاته
بقادة الإطار التنسيقى المعارض.
وقد
عملت إيران عبر قاآنى على إقناع قادة الإطار التنسيقى بضرورة مشاركة جزء منهم فى
حكومة الأغلبية التى سيشكلها الصدر تفادياً لحالة الانعزال السياسى الكامل لقوى
الإطار حال عدم تمسكهم بحلحلة مفاوضات تشكيل الحكومة، باعتبار أن هذا الخيار يمثل
أقل الخسائر الممكنة للقوى المحسوبة على إيران، وهذا يتماشى مع تطلعات الصدر
ومحاولته جذب هادى العمرى للمشاركة فى الحكومة شريطة تقنين وضع منظومة السلاح
الخاصة بهيئة الحشد الشعبى.
ما
سبق يعنى أن إيران ربما تكون فى طريقها للتضحية بنورى المالكى وائتلافه وتركه فى
المعارضة مقابل مشاركة تيار الفتح فى حكومة الأغلبية السياسية التى يرغبها مقتدى
الصدر، على قاعدة "ما لا يدرك كله، لا يترك كله"، وهو ما يضمن لإيران
موطئ قدم – ولو بهامش حركة بسيط نسبياً – داخل الحكومة الجديدة بما يفرض حالة من
الاستقرار السياسى "الهش" داخل العراق خلال المرحلة الراهنة.