الموقف الإنساني من العقوبات الدولية وآثارها على المدنيين

في ظل إتساع دائرة التأثيرات المتنامية للعقوبات الدولية ضد الأنظمة المتقاطعة مع إرادة الأسرة الدولية على ضحاياها من المجتمعات المدنية قبل أنظمتها، وأثر تصاعد لغة التلويح بتل العقوبات بين حين وآخر ضد هذه الدولة او تلك وبصرف النظر عن الدوافع والمسوغات، حتى باتت منهجا مألوفا في عالمنا المعاصر،  فأن سلسلة من المجتمعات في مختلف قارات العالم باتت تأن تحت وطأة تلك العقوبات من دون أن نرى اي أثر يذكر على أنظمتها الحاكمة، والشواهد كثيرة كان أقساها عقوبات مجلس الأمن الدولي وفرضه الحصار الشامل على العراق لنحو ثلاثة عشر عاما على خلفية إتهام النظام الحاكم آنذاك بإمتلاك أسلحة الدمار الشامل. آخر الصراعات المفضية الى إستخدام العقوبات الدولية كسلاح للإنتصار على أرادة الطرف المقابل يتجلى اليوم بالضد من روسيا على خلفية حربها في أوكرانيا..
الباحث صدقي عابدين في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية نشر رأيا حول هذه العقوبات تحت عنوان " العقوبات الدولية .. معضلة الأنسنة "  ضمنه مايلي ،،،، 


بمبادرة من روسيا التي تتولى رئاسة مجلس الأمن خلال شهر فبراير الحالي (2022) ناقش مجلس الأمن يوم السابع من الشهر قضية العقوبات الدولية وما قد يترتب عليها من تداعيات على حياة الناس العاديين، حتى وإن كانت غير مقصودة. لكن هل مثل هذا الأمر يمكن تحقيقه على أرض الواقع خاصة على ضوء التجارب السابقة والمستمرة للعقوبات؟. وماذا عن العقوبات التي تفرضها الدول فرادى بعيداً عن مجلس الأمن الدولي المخول بذلك طبقاً للمادة الحادية والأربعين من ميثاق الأمم المتحدة؟.
قبل الدخول في تفاصيل ما دار في مناقشات مجلس الأمن، تجدر الإشارة إلى دلالات توقيت الطرح الروسي لهذه القضية للنقاش. بطبيعة الحال، قد يقال إن الواقع الذي يعيشه العالم منذ أكثر من عامين بما في ذلك تلك الدول المطبق عليها عقوبات صعب جداً في ظل تفشي وباء كورونا. وهذا عامل مهم، لكنه ليس العامل الوحيد وراء التحرك الروسي. فروسيا ومعها الصين ودول أخرى ليست مع التوسع في استخدام العقوبات. وكثيراً ما وقفت الدولتان دون تغليظها في حالات من بينها حالة كوريا الشمالية، كما أنهما كثيراً ما طالبتا بتخفيف ما هو مفروض منها، وبالتوسع في الاستثناءات التي تمنح من قبل لجان الجزاءات في مجلس الأمن لاعتبارات إنسانية. أضف إلى ذلك المعارضة المبدئية لكلا الدولتين لأي صيغة من صيغ العقوبات التي تفرض بعيداً عن الأمم المتحدة. وأخيراً وليس آخراً، فإن كلاً من الصين وروسيا وحلفاء لهما أو مقربين منهما فرضت عليهم عقوبات متوالية، وما زالت التهديدات قائمة بفرض عقوبات جديدة على خلفية قضايا سياسية وأمنية شائكة.
الاستخدام الحذِر
 فاسيلي نيبينزيا مندوب روسيا الدائم لدى الأمم المتحدة أكد على أنه "مع مواجهة العالم اليوم تحديات عالمية متعددة بما فيها الجائحة، يجب على مجلس الأمن أن يتأكد من أن تتجنب العقوبات المفروضة من أجل الحفاظ على الأمن والسلام أي تأثير على الجوانب الإنسانية والاجتماعية الاقتصادية أو عواقب غير مقصودة."روسيا أكدت على أن العقوبات أداة مهمة من الأدوات التي يستخدمها مجلس الأمن للحفاظ على السلم والأمن الدوليين. ومع ذلك، فلابد من استخدامها بحذر، وأن لا تتحول إلى أداة انتقامية، وأن ترتبط بما يحدث على الأرض من تطورات في الحالات التي فرضت فيها، ولذلك فإنه لابد أن تكون هناك مراجعة مستمرة لها لكي تخدم تحقيق الأهداف التي فرضت من أجلها، وأن لا تتحول إلى عامل من عوامل تعقيد الأوضاع، وهذا ما يستدعي ضرورة أن تتميز العقوبات بالمرونة.
وحول مراعاة عدم المساس بحياة الناس العاديين، أكدت روسيا أنه غالباً ما تسمع عبارات جيدة بهذا الخصوص لكن عند التطبيق غالباً ما تتدهور الظروف المعيشية للناس جراء العقوبات. ومن ثم فإنه لابد من البحث في الأدوات التي من شأنها التخفيف من ذلك على الأقل. ومن بين تلك الأدوات بطبيعة الحال التوسع في مسألة الاستثناءات التي تمنح لأهداف إنسانية.
لكن حتى هذه الاستثناءات غالباً ما تواجه بعقبات كثيرة سبق لمسئولين في الأمم المتحدة أن أثاروها في أكثر من حالة. ومن بين هذه العقبات تحوف المتعاقدين من الدخول في تلك العمليات من الأساس، وصعوبة وجود تيسيرات بنكية لإجراء المعاملات التي أقرتها الاستثناءات.
وقد أكد ديميتري بولينسكي النائب الأول لممثل روسيا الدائم في الأمم المتحدة على أنسنة آلية العقوبات التي يستخدمها المجلس. ومن بين ما طرحه في هذا السياق عمليات تقويم شاملة للآثار الإنسانية للإجراءات التقييدية التي تتضمنها العقوبات، وأن يشارك في هذه العملية خبراء معنيون ومختصون من داخل المنظمة الدولية وأجهزتها ذات الصلة خاصة المعنية بالشئون الإنسانية، والتي يمكنها تقديم تقارير لمجلس الأمن حول الآثار السلبية الإنسانية للعقوبات.
مارتن جريفيث وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشئون الإنسانية كان واضحاً بالنسبة لتأثير العقوبات على الجوانب الإنسانية وأنشطة المنظمات المعنية بتلك الشئون عندما قال: "إنها تؤثر على عملياتنا بشكل مباشر وغير مباشر، وتؤثر على المدنيين، حتى عندما تكون هذه التأثيرات غير مقصودة". ليس هذا فحسب، بل إنه ذهب إلى أنه مع أخذ الكثير من الاحتياطات عند فرض العقوبات تبقى لها تأثيرات سلبية على عمل تلك الوكالات وعلى الناس الذين تعمل من أجل مساعدتهم "مهما كانت ذكية، ومهما كانت مستهدفة، فإن الامتثال للعقوبات عنصر يومي في عمل الوكالات الإنسانية. ويمكن أن يؤثر على لوجستياتنا وأموالنا وقدرتنا على التسليم. ويمكن أن يؤدي إلى تأخير المشاريع الإنسانية أو وقفها. ويمكن أن يهدد بعضها رفاهية قطاعات كاملة من المجتمع المدني". وقد انتهى جريفيث إلى أهمية الحاجة إلى الاستمرار في مراجعة الطريقة التي تصمم بها العقوبات، والطريفة التي تنفذ بها، ومن ثم تأثيراتها عند التنفيذ. وأكدت روز ماري ديكارلو وكيلة الأمين العام للأمم المتحدة للشئون السياسية وحفظ السلام على أهمية أن تكون العقوبات جزءاً من استراتيجية سياسية شاملة، مشيرة إلى أن هناك الكثير الذي يمكن عمله بالنسبة لتقليل الآثار السلبية للعقوبات مستشهدة بقرار مجلس الأمن رقم 2615 بالنسبة لحالة أفغانستان، وضرورة أن تلتزم الدول بالمعايير التي أقرت عند فرض العقوبات بما في ذلك المعايير الخاصة بالقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان. بالإضافة إلى عمليات الرقابة والمتابعة، وزيادة التعاون بين العاملين في الحقل الإنساني والقطاع الخاص، فضلاً عن عمليات تدريب وتقويم.
الصين لم تذهب بعيداً، وإن كانت قد أشارت إلى ما اعتبرته كثافة في فرض العقوبات في العقدين الأخيرين، مطالبة بخطوات واضحة للتقليل من آثارها الإنسانية، وأن لا يساء تفسير تطبيق العقوبات، وأن يعمل المجلس على إيقاف العقوبات أو إعادة هيكلتها في ظل ظروف كورونا، وأهمية أن تكون هناك وثيقة جامعة تتضمن المبادئ الحاكمة للخطوات المستقبلية على صعيد العقوبات. وقد ذكرت الصين الحالة الكورية الشمالية التي تعاني من مشاكل اقتصادية واجتماعية كبيرة، مطالبة بضرورة بحث المجلس لهذا الأمر بشكل عاجل.
وبالنسبة للعقوبات الأحادية، فإن الصين اعتبرت أنها تتسبب في كوارث وتحدث الفوضى، وتتسبب بخسائر كبيرة للتعددية على الصعيد الدولي، وتتعارض مع ميثاق الأمم المتحدة، وتعكس رغبات بعض الدول في الهيمنة. روسيا هي الأخرى اعتبرت ذلك النوع من العقوبات تعدياً على سيادات الدول المستقلة وتدخلاً في شئونها الداخلية، ومن ثم فإنها تتعارض مع القواعد الأساسية للشرعية الدولية.
من الواضح أن الطرف المعني بالكلام الروسي والصيني حول العقوبات الأحادية هو بالأساس الولايات المتحدة الأمريكية، ومن ثم فقد جاء الرد الأمريكي بأن العقوبات الأحادية لها أساس شرعي، ولها فاعليتها في التعامل مع التهديدات عندما يحال دون تعامل المجلس مع هذه التهديدات. المقصود هنا بطبيعة الحال استخدام أيٍ من الدول صاحبة العضوية الدائمة حق الاعتراض على قرارات تتضمن فرضاً لعقوبات جديدة أو تغليظاً لعقوبات قائمة بالفعل، سواء تعلق الأمر بحالات الانتشار النووي أو الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان.
وكما هو معلوم، فإن هذه قضايا خلافية بين القوى الكبرى، ولا يخفى ما يدور بينها على هذا الصعيد بما في ذلك الاتهامات والاتهامات المضادة، والعقوبات والعقوبات المضادة أيضاً. وربما يكون هذا الأمر باستطاعة الدول الكبرى التعامل معه عبر ما تمتلكه من أدوات وآليات ضغط سياسي واقتصادي، بينما تظل الشعوب في الدول الفقيرة والضعيفة التي تفرض عليها العقوبات تدفع أثماناً باهظة وربما لأجيال متوالية. والحالة الأبرز في هذا السياق هي حالة كوبا التي تفرض عليها الولايات المتحدة الأمريكية حصاراً شاملاً، وترفض الانصياع لقرارات متوالية صدرت من الأمم المتحدة خلال العقود الثلاثة الماضية.
إشكاليات عديدة
من الواضح أن هناك إشكاليات كثيرة تطرحها قضية العقوبات وما يترتب عليها من آثار إنسانية ضارة. ومن بين هذه الإشكاليات ما يتعلق بالفلسفة التي يقوم عليها نظام العقوبات ذاته، ومنها ما يتصل بالخبرة المتراكمة من حالات فرض العقوبات، سواء على صعيد الوصول إلى قرار العقوبات، ومن ثم حجم ونوعية وزمن العقوبات، ثم التطبيق الفعلي للعقوبات.
من حيث الفلسفة، وكما سلفت الإشارة فإن ميثاق الأمم المتحدة قد نص صراحة علىأنه "لمجلس الأمن أن يقرر ما يجب اتخاذه من التدابير التي لا تتطلب استخدام القوات المسلحة لتنفيذ قراراته، وله أن يطلب إلى أعضاء الأمم المتحدة"تطبيق هذه التدابير، ويجوز أن يكون من بينها وقف الصلات الاقتصادية والمواصلات الحديدية والبحرية والجوية والبريدية والبرقية واللاسلكية وغيرها من وسائل المواصلات وقفاً جزئياً أو كلياً وقطع العلاقات الدبلوماسية". ومن ثم فلا يمكن لأحد أن يجادل في مشروعية هذه العقوبات. لكن هل هذه المشروعية وحدها تمثل ضمانة لأن يكون للعقوبات تبعات إنسانية ضارة؟.
 بطبيعة الحال، لا يمكن الجزم بذلك، بل إن هذا الأمر يثير تساؤلات كثيرة بخصوص العوامل التي على أساسها يبنى قرار العقوبات. هل يتم اللجوء إلى العقوبات في كل الحالات التي تنطبق عليها المؤشرات ذاتها؟. وتكفي هنا الإشارة إلى حالات الانتشار النووي خارج نطاق معاهدة منع الانتشار. هل تم تطبيق المعايير ذاتها من حيث تقييم الحالات أولاً، ومن ثم بحث المسألة في مجلس الأمن، وبعد ذلك إقرار التدابير ذاتها في كل الحالات؟. لماذا خصت حالات بعينها بسلسلة من القرارات من قبل المجلس بينما لم يقترب المجلس من مناقشة حالات أخرى، في حين اكتفى بأمور رمزية في حالات ثالثة؟. لماذا عوقبت دول لمجرد شكوك وظنون فيما يتعلق بأسلحة الدمار الشامل بينما لم تعاقب دول أخرى هناك أدلة وبراهين على امتلاكها لهذه النوعية من الأسلحة بما يخالف قواعد القانون الدولي؟. كيف تصل العقوبات في الحالات الظنية إلى منع مستلزمات تعليمية تحت حجة إمكانية الاستخدام المزدوج؟.
من الواضح أن الأمر يخضع للاعتبارات السياسية والمصلحية وأن القواعد القانونية توظف لخدمة هذه المصالح سواء أكان التحرك بالإيجاب لجلب القضية إلى المجلس ومن ثم المحاسبة أو التصدي لمجرد الحديث عن القضية أو إدراجها على أجندة المجلس. هذا عن القضايا التي تندرج في إطار التصنيف التقليدي لمهددات السلم والأمن الدوليين، فماذا عن القضايا التي لا تدخل في هذا التصنيف، والتي تعتبر لدى الكثير من الدول شأناً داخلياً خالصاً، ومن ذلك ما يتعلق بالديمقراطية وحقوق الإنسان وشكل الحكم وطريقة الوصول إليه وربما يصل الأمر إلى النموذج التنموي الذي تنحاز إليه تلك الدولة أو تلك. ولربما اتسع النطاق في المستقبل ليشمل قضايا بيئية ومناخية.
مجلس الأمن جهاز سياسي وليس جهازاً قانونياً. فهل يمكن أن يكون من ضمن سبل البحث عن تخفيف الآثار الإنسانية للعقوبات البحث في إمكانية أن يكون للجهاز القضائي في الأمم المتحدة دور في هذه المسألة؟، خاصة وأن الجمعية العامة لأمم المتحدة كانت قد طالبت صراحة بـ"وجود إجراءات منصفة وواضحة لفرض تدابير الجزاءات ورفعها". طبعاً مثل هذا الأمر دونه عقبات كثيرة أعقدها مواقف الأعضاء الدائمين في المجلس أنفسهم، والذين قد تلتقي إراداتهم على التصدي لمثل هذا الطرح رغم اختلافهم حول الآليات الحالية للعقوبات.
بيانات الأمم المتحدة تشير إلى أن مجلس الأمن الدولي قد أنشأ منذ منتصف الستينيات من القرن الماضي ثلاثين نظاماً للجزاءات (العقوبات)، وأنه في الوقت الراهن يوجد أربعة عشر نظاما لتلك الجزاءات. والملاحظ أن نظم الجزاءات تلك في معظمها فرضت على دول نامية والكثير منها دول فقيرة وفي بعض الحالات تعاني شعوبها من المجاعات، مما يجعل من المنطقي التساؤل: أليس من الأولى البحث في سبل لمساعدة هذه الدول على التغلب على مشاكلها بدلاً من معاقبتها؟.
ولا شك أن الدول الكبرى المسئولة عن فرض العقوبات وهي تبحث عن كيفية تجنب الأضرار الإنسانية لتلك العقوبات أن تناقش دروس الحالات السابقة، وما إذا كانت العقوبات قد أحدثت التغير المطلوب، وحجم الضرر الإنساني الذي سببته للناس العاديين، وما إذا كان هذا الضرر يتوازى مع الهدف المقصود؟. والأكثر من هذا، فإن على تلك الدول أن لا تغفل أن سياساتها كانت في حالات كثيرة تتحمل النصيب الأكبر من المسئولية عن وصول الأمور إلى الدرجة التي جعلتها تفكر في فرض العقوبات عنها هنا والتغافل عنها هناك. ويبدو أن ما تتحدث به الدول والمواثيق الدولية من حقوق وحريات وعدالة ومساواة لا يكون كذلك عند التطبيق. ومن ثم فإن ما يتم البحث فيه هو الحد مما تحدثه العقوبات من تشوهات وما تتركه من ندوب في حياة الشعوب المكتوية بنيرانها أما أن تكون العقوبات إنسانية فهذا أمر يبدو بعيد المنال.