تحولات الوضع السوري في ظل الفاعل الخارجي وعلاقتها بحرب القرم

في محاولة لدراسة تأثيرات الفاعل الخارجي على تحولات الوضع السوري ومدى علاقتها بتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، كتب الباحث عبد الوهاب عاصي دراسة تحليلية موجزة نشرها على موقع الجزيرة تحت عنوان :
( الأزمة السورية وتحولات دور الفاعل الخارجي بعد الأزمة الأوكرانية )جاء فيها ....

مثلما أدى تدخل روسيا في سوريا، عام 2015، إلى تغير خارطة السيطرة والنفوذ بين الفاعلين المحليين وأدوار الفاعلين الخارجيين، لا شيء يمنع أن تتغير مرة أخرى بانشغال موسكو في الحرب الأوكرانية والتي لا تزال مفتوحة على العديد من السيناريوهات. تهدف هذه الورقة إلى دراسة واقع الأزمة السورية في السياسات الراهنة للفاعلين الأساسيين الخارجيين بعد اندلاع الصراع في أوكرانيا.
بينما شكَّل وجود روسيا في سوريا "مصدر تهدئة" واستقرار لبعض القوى الإقليمية والدولية كان عامل تقييد لوصول ونفوذ بعضها الآخر عسكريًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا وأمنيًّا. ومع بوادر تراجع حضور روسيا في سوريا بعد اندلاع الصراع في أوكرانيا بدأت تظهر مخاوف وطموحات تلك القوى، من حيث تعزيز أو تراجع أدوارها، بعدما أسهم تجميد النزاع منذ عام 2020 في تكريس أدوار بعضها على حساب الآخر، لاسيما حلفاء النظام السوري، الذي انهمك في استعادة السيادة والسلطة ضمن مناطق سيطرته وتقليص أثر الأزمة الاقتصادية التي تفاقمت خلال الأعوام الفائتة. إن السياق الإقليمي المفتوح على الأزمات الدولية والمتأثر بموازين القوى المحلية في سوريا، سيكون له دور رئيسي في تحديد مسار النزاع وتحولاته القادمة.
تهدف هذه الورقة إلى دراسة واقع الأزمة السورية في السياسات الراهنة للفاعلين الأساسيين بعد اندلاع الصراع في أوكرانيا، وأثر التغيرات الطارئة على مواقفهم ومستقبل الأزمة السورية.
أولًا: الأزمة السورية في السياسات الراهنة للفاعلين
تتوزع الجغرافيا السورية، فضلًا عن القوى المحلية، مناطق نفوذ لقوى دولية إقليمية متعددة، أبرزها تركيا، وتحتضن وتدعم قوى معارضة، وإيران وروسيا إلى جانب النظام السوري. وهناك إسرائيل المعنية بأمنها على الحدود وبما تؤول إليه الأوضاع في سوريا، إضافة إلى الدور الروسي المحوري، ويقابله وجود عسكري أميركي محدود - لكنه فعال- لمحاربة الإرهاب وداعش وتقديم بعض الدعم لقسد (قوات سوريا الديمقراطية). مناطق النفوذ هذه هي محل تماس عسكري وسياسي بين القوى الإقليمية لاسيما الأساسية منها، وهي تؤثر وتدل على طبيعة واتجاه الأدوار السياسية لهذه الأخيرة في الأزمة السورية.

الأزمة عسكريًّا
عندما اندلع الصراع في أوكرانيا، نهاية فبراير/شباط 2022، كان قد مضى عامان على خفض التصعيد في سوريا، وهي أطول فترة تهدئة شهدتها البلاد منذ بداية الأزمة عام 2011؛ حيث تعثرت سابقًا جميع التفاهمات الدولية في التوصل إلى اتفاق -لإنهاء أو خفض العمليات القتالية- يقود إلى تهدئة متوسطة أو طويلة الأمد. ومنذ مارس/آذار 2020، تُسيطر المعارضة السورية على قرابة 11% من جغرافيا البلاد، التي بلغت نسبة استحواذ النظام عليها أكثر من 63%، وقوات سوريا الديمقراطية أقل من 26%.
كان الحفاظ على التهدئة كل تلك المدة نتيجة لعدة عوامل، أبرزها: حرص روسيا على استمرار التنسيق والتعاون مع بقية الفاعلين الدوليين، بما يؤدي لتحويل الإنجاز العسكري إلى مكاسب سياسية واقتصادية؛ أي إعادة تطبيع العلاقات مع النظام السوري ورفع العقوبات الاقتصادية تدريجيًّا عنه أو تقليص أثرها على أقل تقدير. إضافة إلى رغبة الولايات المتحدة وتركيا في عدم تقويض الاستقرار والأمن، حتى إن حرص واشنطن على استمرار تدفق المساعدات الإنسانية عبر الحدود إلى سوريا دفعها إلى قبول مطالب روسيا بتوسيع عمليات التمويل لتشمل التعافي المبكر وليس الاستجابة والطوارئ فقط.
أسهم جمود النزاع في تقليص حدَّة التنافس نسبيًّا بين الفاعلين الدوليين والمحليين في سوريا إلا أن اندلاع الصراع في أوكرانيا أظهر بوادر للتراجع في التزام كل من تركيا وإيران وإسرائيل بخفض التصعيد في مناطق الشمال والجنوب السوري. ويبدو ذلك مرتبطًا بإعلان روسيا تغيير مهام قواتها؛ حيث بات تركيزها منصبًّا على ضمان الاستقرار والأمن على حساب العمليات القتالية.
في الشمال الغربي من سوريا: تتخوف تركيا من أن يؤدي انشغال روسيا في أوكرانيا إلى التراجع عن التزاماتها في تنفيذ مذكرات التفاهم المشتركة، والتي تنص على قيام القوات الروسية بإخراج عناصر حزب العمال الكردستاني من تل رفعت ومنبج شمال وشرق حلب ومن عمق 30 كم على طول الحدود السورية-التركية شرق الفرات. هذا ما قد يُفسر عودة حديث تركيا بجدية منذ أواخر مايو/أيار 2022، عن نيتها شنَّ عملية عسكرية جديدة لاستكمال الخطوات المتعلقة بالجزء المتبقي من إنشاء المنطقة الآمنة بعمق 30كم على طول حدودها الجنوبية مع سوريا. وقد قامت القوات التركية وفصائل المعارضة السورية برفع مستوى الجاهزية وتوزيع محاور القتال على خطوط التماس في مناطق مثل منبج وتل رفعت شرق وشمال حلب، إضافة إلى تكثيف عمليات القصف الجوي لأهداف تابعة لحزب العمال الكردستاني وقوات سوريا الديمقراطية على طول الشريط الحدودي. أما روسيا فقد واجهت مطالب تركيا بشن عملية عسكرية جديدة في سوريا بالرفض والتحفظ؛ لاعتبارها خطوة تُهدد الاستقرار. كذلك، قابلت إيران مخاوف تركيا التي تدفعها لشنِّ عملية محتملة بالرفض مرة والتفهم في أخرى، لكنها استكملت فعليًّا الاستعداد لأي انهيار لوقف إطلاق النار؛ حيث أنشأت، نهاية مايو/أيار 2022، غرفة عمليات مشتركة مع قوات النظام السوري وقوات سوريا الديمقراطية في منطقة تل رفعت حملت اسم "صاعقة الشمال".
في إدلب: زادت القوات الإيرانية من نشاطها وحضورها في معظم القطاعات العسكرية منذ فبراير/شباط 2022، ومع أن ذلك قد يكون نتيجة تنسيق مسبق مع القوات الروسية في إطار استبدال المهام العسكرية، إلا أنه أثار لاحقًا قلق فصائل المعارضة والقوات التركية في إدلب من استئناف العمليات القتالية في المنطقة، حال شنِّ هجوم على مناطق قوات سوريا الديمقراطية في تل رفعت أو منبج، لاسيما أن إيران تبدو أقل التزامًا من روسيا بالحفاظ على خفض التصعيد في إدلب.
في الشمال الشرقي من سوريا: قامت روسيا، ومنذ مطلع يونيو/حزيران 2022، برفع مستوى التنسيق الثنائي مع تركيا عبر زيادة معدل تسيير الدوريات المشتركة ضمن جميع المسارات؛ لإعادة تأكيد الثقة بقدرتها على تنفيذ الالتزامات المتعلقة بإقامة المنطقة الآمنة وفق مذكرة سوتشي (2019)، رغم الانشغال في الصراع بأوكرانيا. ومع أن تركيا أظهرت الاستعداد للتعاون مع روسيا شرق الفرات إلا أنها تمسكت بتنفيذ العملية العسكرية غربه، بما يُظهر أنها لا تُفضِّل تبديد مخاوفها الأمنية بمجرد الاعتماد على أدوات العمل المشترك مع روسيا؛ بل عبر ضمان ذلك بمفردها أيضًا، وهي غالبًا ما تُحاول الضغط على روسيا من أجل السماح بذلك؛ عبر أدوات عديدة مثل تقييد عمليات الإمداد والتجديد المنتظم للقوات الروسية في سوريا جوًّا وبحرًا؛ وهو قرار لم يكن لتركيا أن تتخذه لولا أن الظروف الدولية الراهنة تُساعدها على ذلك.
قد يكون تفضيل تركيا للعودة إلى أدوات العمل المشترك مع روسيا شرق الفرات مرتبطًا بموقف الولايات المتحدة الرافض أيضًا لأي أنشطة عسكرية تُهدد استقرار المنطقة، لاسيما أن القوات الأميركية عملت، ومنذ مايو/أيار 2022، على إظهار أهمية الحفاظ على الاستقرار العسكري في مناطق مثل عين العرب؛ بإعادة تفعيل النشاط ضِمن قاعدة خراب عشق قرب عين العرب من أجل تنفيذ العمليات ضد قادة تنظيم الدولة (داعش) في مناطق حلب وإدلب شمال غرب سوريا.
في مناطق الحسكة، وبخلاف ما هو عليه الحال في مناطق حلب وإدلب، هناك استمرار واضح للتنافس بين القوات الروسية والإيرانية؛ حيث حاولت القوات الإيرانية الاستفادة من تراجع دور موسكو كوسيط بين النظام والإدارة الذاتية بالضغط على الأخيرة لحملها على تقديم تنازلات؛ عبر حصار حي الشيخ مقصود في حلب، في أبريل/نيسان 2022، والذي أدى بالمقابل لقيام قوات الأسايش -قوى الأمن الداخلي التابعة للإدارة الذاتية التي أسسها حزب الاتحاد الديمقراطي في مناطق قسد- بحصار القامشلي شمال الحسكة؛ قبل أن تتدخل موسكو وتخفض التصعيد مجددًا بين الطرفين.
وغالبًا ما تريد إيران استعادة وتوسيع حضورها في محافظة الحسكة، الذي تراجع منذ أبريل/نيسان 2021 بعد إخراج قوات الدفاع الوطني التابعة لها من حي طي في القامشلي لصالح قوات سوريا الديمقراطية بموجب اتفاق رعته روسيا. وبالفعل، فقد زادت طهران من نشاطها في المنطقة بعد انشغال روسيا في أوكرانيا.
في الجنوب من سوريا: هناك أيضًا تراجع واضح لمستوى خفض التصعيد منذ اندلاع الصراع في أوكرانيا حيث زادت القوات الإيرانية من نشاطها العسكري والأمني في محافظتي درعا والقنيطرة بنشر عدد أكبر من القواعد والنقاط العسكرية ورفع حجم ومستوى تهريب الأسلحة والمخدرات عبر الحدود الأردنية-السورية، وقد تسبب ذلك في قيام القوات الأردنية بتنفيذ عمليات أمنية عديدة على طول الشريط الشائك بين البلدين، إضافة لإجراء محاكاة عسكرية لسيناريو ملاحقة ضد الميليشيات والمهربين في المنطقة الحدودية.
ويبدو أن نشاط إيران المتزايد في الجنوب السوري أدى إلى قيام إسرائيل بتوسيع عدد ونطاق ضرباتها الجوية والصاروخية على سوريا؛ بما شمل -لأول مرة منذ تدخلها في سوريا عام 2013- استهداف مطار دمشق الدولي في 10 يونيو/حزيران 2022. من الواضح أن تل أبيب تتخوف من زيادة التنسيق الأمني بين النظام السوري وإيران؛ بعد تراجع دور روسيا، لاسيما أن زيارة بشار الأسد لطهران، مطلع مايو/أيار 2022، ناقشت غالبًا قضية إيجاد بدائل عن صعوبة نقل الأسلحة عبر الطرق البرية. وقد يُعطي ذلك تفسيرًا لاستهداف مطار دمشق؛ أي لقطع الطريق أمام طهران لعدم توسيع أو تكثيف استخدام النقل الجوي لشحنات الأسلحة عبر المطارات المدنية. وقد تتخوف إسرائيل أيضًا من أن يؤدي تراجع التنسيق مع روسيا؛ بسبب الصراع في أوكرانيا، إلى زيادة نشاط حزب الله وقوات النظام السوري في منطقة فض الاشتباك (1974).

الأزمة سياسيًّا
تمر العملية السياسية في سوريا بحالة من الجمود منذ انطلاق مسار الإصلاح الدستوري نهاية عام 2019، وبسبب اندلاع الصراع في أوكرانيا أصبحت "الدبلوماسية البنَّاءة" التي يعتمد عليها المبعوث الأممي، غير بيدرسون، في دعم جهوده من قبل الدول الفاعلة في سوريا أكثر صعوبة.
كانت الأمم المتحدة قد تبنَّت منذ نهاية عام 2021 مقاربة "خطوة مقابل خطوة، وخطوة بخطوة" من أجل تطوير العملية السياسية في سوريا، وباتت تعتمد على تضافر الجهود الدولية الدبلوماسية لدعم هذا النهج، الذي يتألف من مجموعة إجراءات متبادلة من النظام السوري والمعارضة في عدد من القضايا، مثل: "المعتقلين والمختطفين والمفقودين، والمساعدات الإنسانية والتعافي المبكر، وشروط العودة الآمنة والطوعية للاجئين، وتحسين الظروف الاجتماعية والاقتصادية، وترسيخ الهدوء وتحقيق الاستقرار والتعاون في مكافحة الإرهاب، والمسائل الدبلوماسية".
ورغم مخاوف المبعوث الأممي من تأثير الصراع في أوكرانيا على الدعم الدولي لمقاربة خطوة بخطوة إلا أنها حظيت في مارس/آذار 2022، بدعم من المجموعة المصغرة لأجل سوريا، والتي تضم 11 دولة بما فيها الولايات المتحدة ودول أوروبية وعربية.
قد يكون الدعم الغربي مرتبطًا بمحاولة نقل مناطق النزاع في سوريا إلى مرحلة أكثر تقدمًا يتمكن فيها السكان واللاجئون من الاعتماد على أنفسهم، وبالتالي تخفيف العبء على المانحين خلال السنوات المقبلة؛ فمؤتمر بروكسل لدعم سوريا والمنطقة، الذي عُقدت النسخة السادسة منه بين 9 و10 مايو/أيار 2022، أكد لأول مرة على ضرورة الاهتمام بمسائل التعافي المبكر وليس الإغاثة الإنسانية فحسب. ومع ذلك، يبدو أن الولايات المتحدة لا تزال غير واثقة من استمرار منح النظام السوري استثناءات من العقوبات الاقتصادية التي يفرضها قانون قيصر؛ فاللائحة الصادرة منتصف مايو/أيار 2022، والخاصة بمسائل التعافي المبكر أقصت النظام بشكل واضح على خلاف ما قامت به عامي 2020 و2021 عندما منحته بعض الاستثناءات.
عمومًا، أسهم الموقف الغربي الداعم نسبيًّا لنهج الأمم المتحدة، في عقد جولتين من الجولة رقم (7) و(8) من مباحثات اللجنة الدستورية بين مارس/آذار ويونيو/حزيران 2022، لكن دون تحقيق أي تقدم أو اختراق في صياغة إصلاح دستوري. وعلى غرار الدول الغربية والعربية تدعم كل من تركيا وروسيا استمرار العملية السياسية في إطار الإصلاح الدستوري رغم الجمود الذي تمر به المباحثات، ولا يبدو ذلك مرتبطًا فقط بأهمية المسار من أجل الاستقرار ووقف الأعمال القتالية ومكافحة الإرهاب، إنما لكونه يعكس قدرة كل منهما كوسيط على المساهمة في حل النزاع ويحافظ على استمرار آلية العمل المشترك في سوريا؛ باعتبار المسار أحد مخرجات منصة أستانا الثلاثية، التي حرصت أنقرة وموسكو وطهران على انعقاد جولة جديدة منها حملت الرقم (18)، منتصف يونيو/حزيران 2022.
ثانيًا: التغيرات الإقليمية والدولية وسياسات الفاعلين
إن التغيرات الإقليمية والدولية -كالصراع في أوكرانيا ومفاوضات الاتفاق النووي- قد تضع الأزمة السورية أمام أحد خيارين؛ فإما الحفاظ على الوضع الراهن القائم على الاستقرار الهش أو العودة إلى التصعيد مجددًا.
1. تعزيز الاستقرار الهش
إن استمرار الوضع الراهن القائم على الاستقرار الهش في سوريا يعني عدم حصول أي تغيير على خطوط التماس في مناطق خفض التصعيد سواءً بين قوات سوريا الديمقراطية وفصائل المعارضة أو بين الأخيرة وقوات النظام السوري. وبالتالي، تراجع تركيا عن نيتها شن عملية عسكرية جديدة شمال سوريا، وعدم تحول التصعيد الإسرائيلي جنوب البلاد إلى تهديد يُفضي لتغير قواعد الاشتباك وانتهاء التسوية بين النظام والمعارضة السورية بموجب اتفاق عام 2018، الذي جرى توقيعه برعاية روسيَّة.
في الشمال السوري: إن تخلي تركيا عن العملية العسكرية مرتبط بإصرار الولايات المتحدة وروسيا وإيران على رفض أي تحرك يُهدد الاستقرار القائم، مقابل حصولها على ضمانات جديدة بإخراج حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب من مناطق تل رفعت ومنبج ضمن خارطة طريق جديدة، أو أي أدوات أخرى تسهم في حصولها على تطمينات كإقامة نقاط عسكرية مشتركة مع روسيا أو تنفيذ عمليات أمنية مشتركة معها أو حتى القبول بدخول قوات النظام السوري لتلك المناطق أو التعامل معها كمناطق منزوعة من السلاح والمقاتلين. وطالما أن دوافع أنقرة لشنِّ عملية عسكرية مرتبطة أيضًا بتوفير بيئة آمنة لعودة اللاجئين فإن ذلك قد يحملها على المطالبة بإعادة تفعيل المنطقة العازلة في إدلب المنصوص عليها بمذكرة سوتشي (2018)، والتي سيطرت عليها قوات النظام السوري عام 2020.
وغالبًا لن تكتفي تركيا بالإجراءات العسكرية والأمنية التي قد يجري تقديمها من قبل الفاعلين الدوليين لثنيها عن العملية العسكرية شمال سوريا، بل قد تُطالب بحزمة إجراءات اقتصادية أيضًا لتعزيز استقرار المنطقة ودعم المشروع الذي أعلن عنه الرئيس رجب طيب أردوغان، مطلع مايو/أيار 2022، ويهدف لتوفير بيئة لعودة مليون لاجئ من تركيا إلى الشمال السوري بشكل طوعي بعد إنشاء 13 منطقة تحوي 200 ألف وحدة سكنية.
هذا يتطلب منح استثناءات من العقوبات الاقتصادية الأميركية المفروضة بموجب قانون قيصر، على أن يشمل ذلك عموم مناطق الشمال السوري الواقعة ضمن نطاق المنطقة الآمنة التي تُطالب بها تركيا، بما في ذلك إدلب وعفرين، دون أن يطول مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية. يُمكن توقع هذا الموقف من تركيا مقارنة مع رد الفعل المتحفظ الذي أبدته بعد إعلان الولايات المتحدة منح استثناءات لمناطق شمال شرق وشمال غرب سوريا، منتصف مايو/أيار 2022.
على أية حال، إن إصرار الفاعلين الدوليين على إبقاء الوضع في الشمال السوري قد يكون نتيجة رغبة من الولايات المتحدة بعدم توسيع المواجهة مع روسيا لتشمل سوريا وأوكرانيا، واستمرار "تطلعها" للتوصل إلى اتفاق نووي مع إيران، وهذه الأخيرة تبذل بدورها جهودًا دبلوماسية لمنع أية عملية عسكرية تركية من خلال التوسط وإقامة حوار بين النظام السوري وتركيا لتقليل المخاوف الأمنية.
في الجنوب السوري: إن إعادة الثقة باتفاق خفض التصعيد واستمرار أو تطوير العمل به يقتضي حصول إسرائيل على تطمينات كثيرة سواء من روسيا أو الولايات المتحدة، وتتعلق تحديدًا بنفوذ إيران في سوريا ولبنان. وبالتالي، ضمان إبعاد القوات الإيرانية مسافة 80 كم عن الشريط الحدودي مع الجولان المحتل بما في ذلك عدم دخول قوات النظام السوري لمنطقة فض الاشتباك، إضافة إلى ضمان عدم استمرار تدفق الأسلحة الإيرانية إلى سوريا ولبنان سواء عبر الطرق البرية أو الجوية. ولا يعني حصول تل أبيب على تلك الضمانات أو التطمينات توقفها بالضرورة عن تنفيذ ضربات جوية ضد مصالح إيران في سوريا سواء بإعادة قنوات الاتصال العسكرية مع روسيا أو بزيادة التنسيق مع الولايات المتحدة والأردن لاستخدام أجواء المملكة الشمالية وأجواء قاعدة التنف في سوريا، وقد بلغ عدد الضربات الإسرائيلية خلال النصف الأول من عام 2022 قرابة 15 غارة.
واستمرار إسرائيل بتنفيذ الضربات الجوية في سوريا مرتبط بعدم تخليها عن إستراتيجيتها "المعركة بين الحروب" التي تهدف لإضعاف إيران وحلفائها ومنعهم من الاستقرار ومراكمة القوة. كما أن الحفاظ على الاستقرار في المنطقة الجنوبية من سوريا لا يعني عدم وقوع مواجهة محدودة بين إسرائيل والقوات الإيرانية لكن دون أن تؤثر على الوضع الراهن.
عمليًّا، يرتبط الاستقرار في الجنوب السوري بعاملين رئيسيين، هما: استمرار تراجع التنسيق الروسي الإسرائيلي في سوريا بسبب الصراع الأوكراني، ونتائج المباحثات بين إيران والولايات المتحدة حول الاتفاق النووي، ورغم التعثر المستمر في المفاوضات -وآخرها تلك التي عُقدت بشكل غير مباشر في الدوحة- إلا أن استمرار مبدأ التفاوض يساعد العقوبات الأميركية على ممارسة تأثيرها لتخفيض نشاط القوات الإيرانية في جنوب سوريا ووضع خارطة طريق لخروجها.
لا توجد لإيران مصلحة في تحويل أي صدام مع إسرائيل في الجنوب السوري إلى مواجهة مفتوحة أو واسعة، لأن مصالحها تقتضي عمليًّا استمرار الاستقرار الهش في عموم البلاد، خاصة في حال التوصل لاتفاق نووي مقبول لديها. وهذا النوع من الاستقرار يساعد إيران على تحقيق بعض مساعيها لتعويض ما استطاعت من تكلفة نفقاتها في سوريا، والتي تتراوح قيمتها فيما يبدو بين 20 و30 مليار دولار، عَبْر ضمان الانخراط الفعال في عمليات إعادة الإعمار أو التعافي المبكر. وبالتالي، توسيع الاستحواذ على الاقتصاد السوري الذي لا تتجاوز حصة إيران فيه 3%.
بناءً على ما سبق، سيُوفر الحفاظ على خفض التصعيد في سوريا فرصة لاستمرار العملية السياسية التي ترعاها الأمم المتحدة وضامنو مسار أستانا، غير أن ذلك لا يعني بالضرورة نجاح مقاربة "الخطوة بخطوة"، خصوصًا إذا رفضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي الإقدام على خطوة رفع العقوبات عن النظام السوري سواءً لتعثر الاتفاق النووي مع إيران أو لاشتراط مسبق بتطبيق حزمة من تدابير بناء الثقة، كوقف استهداف البنية التحتية وإيصال المساعدات الإنسانية دون عوائق للمحتاجين في جميع أنحاء البلاد ووقف الاعتقالات التعسفية والإخفاء القسري والتعذيب وإنشاء آلية محايدة للتحقيق بالانتهاكات.
وعلى فرض تعثر مقاربة "الخطوة بخطوة" قد تلجأ الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بالتنسيق مع تركيا لاتخاذ مزيد من الإجراءات بهدف تعزيز الاستقرار الهش في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوي، أي شمال شرق وشمال غرب سوريا، على غرار لائحة الإعفاءات التي أصدرتها الخزانة الأميركية، منتصف مايو/أيار 2022، وأقصت مناطق النظام منها. قد يكون ذلك أكثر إلحاحًا إذا ما قررت روسيا إيقاف آلية المساعدات الإنسانية عبر الحدود إلى سوريا، وما يترتب عليه من إغلاق معبر باب الهوى وحرمان مناطق شمال غرب البلاد من الاستجابة الطارئة، وبالتالي ضرورة توفير بدائل للمساعدة في المنطقة.
إن تعزيز الاستقرار الهش في مناطق شمال شرق وشمال غرب سوريا، والذي يشبه إلى حدٍّ كبير المبادرة البحثية التي حملت عنوان "التجميد والبناء"، يُمكن أن يُصبح الاستقرار الهش أداة فعالة لدى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي للضغط على روسيا وإيران، من خلال الحفاظ على العقوبات على النظام السوري أو حتى تشديدها والامتناع عن منحه أي استثناءات والالتزام بمواصلة جهود المساءلة، مقابل العمل على فرض الاستقرار العسكري والأمني في المناطق الخارجة عن سيطرته وتعزيز التنمية الاقتصادية فيها.
2. عودة تصعيد النزاع
إن عودة تصعيد النزاع في سوريا تعني تغير قواعد الاشتباك وخطوط التماس في مناطق شمال وجنوب البلاد سواءً بين قوات سوريا الديمقراطية وفصائل المعارضة أو بين الأخيرة وقوات النظام السوري. وتعني أيضًا إصرار تركيا على شن عملية عسكرية جديدة في سوريا، واحتمال انتهاء التسوية القائمة في محافظتي درعا والقنيطرة منذ عام 2018، وربما تخلي التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة عن التزام باتفاق خفض التصعيد في المنطقة 55 بقاعدة التنف.
وأسباب عودة التصعيد عديدة تتراوح بين ما هو دولي وإقليمي، كعدم قناعة تركيا بكل التطمينات التي قُدمت إليها للتخلي عن العملية العسكرية في شمال سوريا، ووجود فرصة دبلوماسية لضمان عدم الاصطدام بالقوات الأميركية والروسية والإيرانية أو أحدها. كذلك، رغبة إسرائيل بعدم العودة للاتفاق النووي واستمرار التوتر في الحدود البحرية مع لبنان، وعدم قناعة إسرائيل بأي ضمانات لتقليص نفوذ ونشاط إيران جنوب سوريا، ورغبة الولايات المتحدة بنقل المواجهة مع روسيا إلى سوريا وعدم اقتصارها على أوكرانيا.
في الواقع، إن عودة التصعيد في سوريا لن تؤدي إلى تغيير قواعد الاشتباك في سوريا فقط بل احتمال إعادة تعريف أدوار وسياسات الفاعلين وحتى الأزمة السورية.

خاتمة
مثلما أدى تدخل روسيا في سوريا عام 2015 إلى تغير خارطة السيطرة والنفوذ بين الفاعلين المحليين، يبدو أن تدخلها في أوكرانيا قد ينعكس على قواعد الاشتباك التي فرضتها في سوريا منذ 7 سنوات. إن انهيار نظام وقف إطلاق النار في شمال أو جنوب سوريا أو كليهما والعودة إلى تصعيد النزاع مرتبط بسياق تغير مواقف وسياسات الولايات المتحدة وروسيا وإيران وإسرائيل وتركيا. وهو سياق تحكمه المباحثات الثنائية أو المتعددة بين الفاعلين الدوليين والإقليميين.
ومع أن أسباب عودة التصعيد في سوريا قائمة بقوة إلا أن فرص الحفاظ على الوضع الراهن وتعزيز الاستقرار الهش تبدو أكثر، لاسيما في حال قررت الولايات المتحدة عدم نقل المواجهة مع روسيا من أوكرانيا إلى سوريا، غير أن ذلك لا يكفي للحيلولة دون تنفيذ تركيا عملية عسكرية جديدة في شمال البلاد. وحتى في حال إصرار تركيا على تنفيذ عملية في محافظة حلب ضمن منطقتي تل رفعت ومنبج أو إحداهما، فإن ذلك لا يعدم فرص الحفاظ على الوضع القائم في بقية خطوط التماس شرق الفرات، وبالتالي إمكانية التعاون بين أنقرة وواشنطن لتعزيز الاستقرار الهش بعد التغير المحدود الذي قد يطرأ على خريطة السيطرة والنفوذ في سوريا.