شهدت العديد من الدول العربية مؤخرا سلسلة
حوارات وطنية تهدف الى اعادة ضبط الاوضاع الداخلية واعادة عقارب الساعة الى ناصية الاستقرار
اللافت قبل سنوات، وبالتالي ضمان السيطرة والتحكم بحاضرها الراهن ومستقبلها المنظور،
بعد موجة التغيرات التي خلفها الربيع العربي فضلا على المتغيرات الأقليمية والدولية
ذات الصلة بأوضاع المنطقة العربية وعموم الشرق الأوسط. الباحث حسين عبد الراضي رصد
أتجاهات الحوارات الجارية في عواصم عربية وما اسفرت عنه في اعادت رسم المشهد السياسي
في تحليل موجز نشره بموقع المستقبل للإبحاث والدراسات المتقدمة تحت عنوان :
( لماذا تزايدت دعوات الحوار الوطني في
الدول العربية ؟ ) قال فيه ....
تتجه العديد من الدول العربية لتفعيل آلية
"الحوار الوطني"؛ لتجاوز الإشكاليات الانتقالية التي مازال يشهدها بعضها،
أو تعزيز الاستقرار ومواجهة التحديات المتزايدة في دول أخرى تجاوزت بالفعل هذا الانتقال
خلال السنوات الماضية. ويُنظر إلى دعوات "الحوار الوطني"، والتي تبنتها دول
مثل تونس والجزائر والسودان وليبيا ومصر، كإطار تنسيقي جامع للفاعلين في قضايا الداخل؛
بهدف التشاور والوصول إلى خريطة عمل داعمة لمسارات الإصلاح ومعالجة الأزمات القائمة.
نماذج مُختلفة:
شهدت العديد من دول المنطقة منذ بداية عام
2022 إطلاق دعوات لتدشين "حوار وطني"، ويمكن استعراض ملامحها كما يلي:
1- السودان: أُعلن عن عُقد الحوار بين القوى
السودانية، في مطلع عام 2022، برعاية "الآلية الثلاثية" التي تضم الأمم المتحدة
والاتحاد الأفريقي ومنظمة (إيجاد)؛ بهدف تجاوز الأزمة السياسية المُتفاقمة في البلاد
منذ أكتوبر 2021، وذلك عبر العمل على تشكيل حكومة كفاءات وطنية مستقلة، وإطلاق حوار
شامل، والتأكيد على إجراء انتخابات حرة ونزيهة، مع إجراء تعديلات على الوثيقة الدستورية
لتواكب تطورات المشهد السياسي في الخرطوم. وبعد تدشين أولى جلسات هذا الحوار في الفترة
من 8 إلى 12 يونيو 2022، أُرجئت الجولات التالية إلى أجل غير مسمى؛ بسبب رفض بعض القوى
والأحزاب المشاركة في الحوار. كما أعلن الاتحاد الأفريقي، يوم 22 يونيو الجاري، تعليق
مشاركته في "الآلية الثلاثية" لتيسير هذا الحوار، بسبب ما وصفه بـ
"الإقصاء وعدم الشفافية".
2- ليبيا: في ضوء الانقسام المُتصاعد بين
القوى الليبية، صدرت في العام الجاري دعوتان للحوار الوطني؛ الأولى، أطلقها رئيس حكومة
الوحدة الوطنية، عبدالحميد الدبيبة، في 20 مارس 2022، وتضمنت تشكيل لجنة لقيادة حوار
وطني حول قانون الانتخابات، وإعداد قاعدة دستورية. وصدرت الدعوة الثانية من خلال رئيس
حكومة الاستقرار الوطني المُعتمدة من البرلمان، فتحي باشاغا، في 2 مايو الماضي؛ للتواصل
المباشر مع الأطراف كافة، والوصول إلى توافق وطني حقيقي.
3- مصر: أعلن الرئيس عبدالفتاح السيسي،
خلال حفل إفطار الأسرة المصرية في شهر رمضان الماضي، إطلاق حوار وطني يجمع القوى والتيارات
السياسية الحزبية والشبابية؛ لبحث أولويات العمل الوطني خلال المرحلة الراهنة، كما
وجه برفع نتائج الحوار الوطني إليه، ووعد بحضور المراحل النهائية من جلساته. وحددت
"الأكاديمية الوطنية للتدريب"، التابعة لرئاسة الجمهورية، الأسبوع الأول
من يوليو المُقبل موعداً لانطلاق أولى جلسات هذا الحوار، وتم اختيار نقيب الصحفيين،
ضياء رشوان، منسقاً عاماً للحوار، والأمين العام للمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، محمود
فوزي، رئيساً للأمانة الفنية للحوار.
4- تونس: شكّل الرئيس التونسي، قيس سعيد،
لجنة مُكلفة بإدارة الحوار الوطني، تنفيذاً لمبادرته بإطلاق حوار بمشاركة الشباب؛ تمهيداً
لتنظيم استفتاء على دستور جديد في 25 يوليو المُقبل، وبهدف الخروج من الأزمة السياسية
التي تعانيها البلاد. وانطلقت جلسات هذا الحوار في 4 يونيو 2022، بمشاركة ممثلين عن
أحزاب سياسية ومنظمات غير حكومية، ومقاطعة قوى أخرى معارضة أبرزها حركة النهضة. وعُقدت
3 جولات من الحوار الوطني، وانتهى بتسلم الرئيس سعيد، يوم 20 يونيو الجاري، مشروع دستور
جديد لتونس، يُفترض أن يوافق عليه قبل طرحه للاستفتاء.
5- الجزائر: دشن الرئيس عبدالمجيد تبون،
في مايو 2022، مبادرة لـ "لم الشمل" وفتح صفحة جديدة مع المعارضة، وذلك بالتزامن
مع احتقال الجزائر هذا العام بالذكرى الـ 60 للاستقلال. وأظهرت العديد من الأطراف الفاعلة
بالمشهد الجزائري دعمها للمبادرة التي سُميت بـ "اليد الممدودة"، وكان في
مقدمتهم رئيس أركان الجيش الوطني الشعبي، الفريق السعيد شنقريحة، وأغلب الأحزاب والتجمعات
السياسية ومنظمات المجتمع المدني بالجزائر. ومازالت المبادرة في طور التبلور، ولكن
الرئيس تبون بدأ في استقبال قيادات الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني؛ تمهيداً لترسيم
إطار الحوار الذي يرمي للتوافق وتجاوز الأزمات السياسية والاقتصادية المختلفة.
أهداف الحوار:
ترتكز دعوات الحوار الوطني في عدد من الدول
العربية على جُملة من الأهداف المرجوة من ورائها، وهي تختلف بطبيعة الحال من دول إلى
أخرى، ويتمثل أبرزها في الآتي:
1- التوافق حول "إصلاحات انتقالية"،
وتجاوز الانقسامات: تسعى أغلب دعوات الحوار الوطني إلى تحقيق التوافق حول مجموعة من
الإصلاحات الانتقالية؛ لمعالجة الإشكاليات الدستورية والمُعضلات السياسية، حيث تستهدف
إيجاد مخرج من هذه الأزمات المُهددة لاستقرار النظام السياسي في بعض الدول. ففي تونس
مثلاً، سعى الحوار الوطني لمعالجة الأزمة المُتصاعدة منذ قرارات 25 يوليو 2021، وإعادة
صياغة العلاقات بين السلطات الثلاث في الدولة، والتي تدهورت بعد اتخاذ الرئيس سعيد
إجراءات استثنائية شملت تجميد البرلمان ثم حله لاحقاً. وعلى صعيد آخر، فإن الحوار السوداني
يأتي في سياق أزمة سياسية مُتفاقمة، تجلت في عودة الانقسام بين المكونات السودانية
بعد قرارات مجلس السيادة في 25 أكتوبر 2021، وضاعفت من حدتها الاحتجاجات الشعبية المُستمرة
في البلاد، فضلاً عن الأوضاع المعيشية المتدهورة.
2- إعادة تهيئة المجال العام لـ "الجمهوريات
الجديدة": تطمح دعوات الحوار الوطني في مصر وتونس الجزائر، على سبيل المثال، إلى
تحقيق نتائج أكثر تأثيراً من فكرة الإصلاحات الانتقالية، وذلك بالتمهيد لإعادة تهيئة
المجال العام سياسياً واقتصادياً، وتأسيس "الجمهوريات الجديدة". وتتشارك
هذه الدعوات الثلاث في كونها مبادرات هادفة لتحصيل أكبر قبول داخلي والتفاف حول مشروعات
وطنية تتجاوز حدود الإصلاحات الانتقالية. ففي القاهرة، تسير الإدارة المصرية نحو تدشين
نموذج "الجمهورية الجديدة"، كما يعمل الرئيس قيس سعيد في تونس على صياغة
دستور جديد وفقاً لنتائج الحوار الوطني، بحيث يعكس أُسس "الجمهورية الجديدة"
أيضاً، علاوة على حديث الرئيس تبون في أكثر من مرة عن "الجزائر الجديدة"
من خلال اتخاذ عدة خطوات منذ توليه الحكم، بدايةً من تعديل الدستور، مروراً بالانتخابات
التشريعية والمحلية، وتجديد المؤسسات والهيئات الدستورية الأخرى، وصولاً إلى طرح مبادرة
لـ "لم الشمل" مع المعارضة.
3- تعزيز المشاركة الوطنية: هدفت دعوات
الحوار الوطني في بعض دول الإقليم إلى دعم ثنائية المشاركة والشرعية؛ حيث إن هذه الدعوات
جاءت من منطلق الرغبة في تحقيق أوسع نطاق من المشاركة بين الفاعلين المؤثرين في المشهد
السياسي، وهو ما يقترن بعملية ترسيخ شرعية بعض النظم الحاكمة، لاسيما في الدول التي
تشهد عثرات في الانتقال السياسي، عبر إدارة الحوار البنّاء الذي يشارك فيه ويدعمه ممثلو
القوى الوطنية، وتبني مخرجاته الإصلاحية وتضمينها في البرامج والخطط التنفيذية في مؤسسات
الدولة. وفي السياق ذاته، يُلاحظ أن غالبية الدعوات اعتمدت منهجية استبعاد الأطراف
التخريبية، سواء المتورطة في أعمال عنف وإرهاب ضد المجتمع أو تلك التي خربت مسارات
الانتقال السلمي بدولها؛ لضمانة سلامة وفعالية الحوار، وألا يتم تعطيل أنشطة المشاركين
فيه وعرقلة استحقاقاته.
4- الحيلولة دون الارتداد إلى العنف: ربما
يستهدف الحوار الوطني تلافي الانزلاق إلى مستنقع الحروب والمواجهات المُسلحة، ويظهر
ذلك في الدول التي تشهد أدواراً متصاعدة للمجموعات والتنظيمات المسلحة، على غرار الحالة
الليبية. لذلك، ارتكزت دعوتا "الدبيبة" و"باشاغا"، كل منهما بشكل
منفصل، في هذا الصدد، على جمع الفاعلين بالمشهد الليبي لتحقيق التوافق حول قضايا وإشكاليات
سياسية مُحددة، من دون التطرق لأية قضايا أخرى قد تفرغ الحوار من مضمونه، كالمشهد الأمني
في البلاد.
مُحددات النجاح:
يرتهن نجاح مسارات الحوار الوطني في دول
المنطقة بعدد من العوامل؛ قد تشمل الداعي للحوار، وأنماط تعاطي المُستهدفين أو المشاركين
في الحوار مع مساراته، بالإضافة إلى آليات إدارة الحوار والضمانات المُقترنة بتطبيق
مخرجاته، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:
1- طبيعة الداعي للحوار: تُعد المؤسسة صاحبة
الدعوة للحوار الوطني من العوامل الأكثر تأثيراً في مسار نجاحه أو عرقلته. وفي هذا
الإطار، تم توجيه أغلب دعوات الحوار في الدول العربية من رأس السلطة (رئاسة الجمهورية
أو رئاسة الوزراء)، فيما صدرت دعوات الحوار، كما في الحالة السودانية، عن طريق جهات
خارجية أخرى تعمل على المساهمة في تحقيق الاستقرار بهذا البلد. وبينما قد يدعم صدور
دعوة الحوار ورعايته من رأس السلطة، فرص نجاحه، بالإضافة إلى قابلية تطبيق مخرجاته
بشكل سريع؛ فإن بعض هذه الحوارات ربما تواجه أيضاً قيوداً ترتبط بتشكك المدعوين في
كون الحوار مجرد مناورة لامتصاص الزخم أو الغضب الشعبي في حالات معينة، أو أن تظل عملية
الحوار وتطبيق مخرجاته انتقائية أو غير مُلبية للتطلعات والطموحات في حالات أخرى.
2- طريقة استجابة المدعوين للحوار: تعد
اتجاهات ودرجات تفاعل الفئات المدعوة للمشاركة في الحوار الوطني، من ضمن العوامل المؤثرة
على فعالية الحوار؛ كونهم المُستهدفين بالأساس بطرح رؤاهم بشأن أجندة وقضايا الحوار.
ولذا فإن قبول المشاركة في الحوار وإظهار زخم إيجابي متعلق به، مثل عقد جلسات موازية
أو استباقية لتوحيد رؤية مُمثلي القوى والأحزاب والنقابات في جولات الحوار، قد يُمهد
لنجاحه. أما إذا جاء تعاطي المدعوين بنمط سلبي أو منخفض المستوى، فإن ذلك يعتبر قيّداً
مُعطلاً لسير الحوار ونجاحه، وهذا ما حدث في أعقاب مقاطعة بعض القوى والتيارات المدنية
للحوار السوداني، ما أدى إلى تعليقه.
3- آليات إدارة الحوار وتطبيق مخرجاته:
يتصل هذا المحور بوجود إطار تنظيمي وهيكل واضح لإدارة الحوار والتعامل الجاد مع مخرجاته،
عبر تشكيل أمانة فنية لإدارة الحوار بصورة مُحايدة وموضوعية، وكذلك منح الفاعلين ذات
التأثير الفرصة للمشاركة والتعبير عن رؤيتهم بشكل متساوٍ. وقد تنبهت العديد من دول
المنطقة لأهمية هذا المُحدد في نجاح الحوار، حيث شكّلت أمانات فنية لتنظيم أعمال الحوارات
الوطنية، ومُعتمدة على تكليف شخصيات عامة مُحايدة وذات قبول واسع.
تداعيات مُحتملة:
قد تشكل آلية الحوار الوطني فرصة لتجاوز
الأزمات التي تعاني منها بعض دول الشرق الأوسط، وهو ما يجعل من الأهمية بمكان استشراف
المسارات المُحتملة لهذه الآلية، وما قد تتيحه من مُكتسبات أو تفرضه من تحديات وعقبات،
وفقاً لسيناريوهي النجاح أو الفشل، وذلك كما يلي:
1- سيناريو النجاح: يتصل هذا المسار ببلوغ
الحوار الوطني في بعض الدول مستويات ملائمة من محددات النجاح سابقة الذكر، وحصاده توافقاً
ونتائجاً إيجابية تساهم في تحقيق المُستهدف من ورائه. وفي هذا الإطار، ستكون تلك الدول
أقرب إلى إنجاز الإصلاحات الانتقالية المرجوة، أو تلافي الارتداد إلى ميادين التأزم
السياسي والمواجهات المسلحة في حالات محددة. كما ستكون الدول التي تجاوزت عتبة الانتقال
المرحلي، أقرب إلى صياغة نموذج سياسي- اجتماعي جديد، تتهيأ فيه الظروف لإتاحة المجال
العام لديناميات وتفاعلات إيجابية أكبر، مع عودة أو زيادة مستويات الثقة بين السلطات
والقوى الفاعلة، وهو ما يعزز من قدرة هذه الدول على مواجهة التحديات المُختلقة.
2- سيناريو الفشل: يرتبط هذا السيناريو
بحدوث خلل في بعض أو كل المُحددات المُتعلقة بتفعيل آلية الحوار الوطني، ما يؤدي إلى
فشل الحوار أو تفريغه من مضمونه. وقد تنجم عن ذلك سلسلة من الانعكاسات السلبية، حيث
ربما تتزايد احتمالات تجدد الاقتتال في بعض دول الصراعات، وتفاقم حدة الانسداد السياسي
والأزمات الاقتصادية في حالات أخرى، وقد تصعب معالجة تلك المُعضلات مُستقبلاً؛ نظراً
لتراجع الثقة بين الأطراف المعنية بالحوار.
إجمالاً، يمكن القول إن دعوات الحوار الوطني
المتزايدة في دول الشرق الأوسط، وهي في الغالب دول عربية، منذ بدايات العام الجاري؛
تعكس رغبة بعض هذه الدول والحكومات في التصدي للأزمات السياسية والاقتصادية المختلقة،
وتعزيز التماسك المجتمعي لديها، وتحقيق مستويات متقدمة من الاستقرار، خاصةً في ظل التحديات
المُتصاعدة الناجمة عن الحرب الروسية – الأوكرانية، ومن قبلها جائحة كورونا. وهذا ما
يتطلب الاستفادة من الخبرات السابقة لعمليات إدارة الحوار الوطني، لاسيما الإقليمية
منها، وتعظيم مكتسباتها، بما يحقق المُستهدف منها.