في ردها على استفسار حول تفسير المادة 70 من الدستور العراقي الدائم لعام 2005 ، افادت المحكمة الاتحادية يوم امس بانه "ينتخب مجلس النواب رئيسا للجمهورية من بين المرشحين لرئاسة الجمهورية بأغلبية ثلثي مجموع عدد اعضاء مجلس النواب الكلي ويتحقق النصاب بحضور ثلثي مجموع عدد اعضاء مجلس النواب الكلي".
جاء هذا التفسير بعد جدال عميق بين فقهاء القانون من جانب والقوى والاحزاب السياسية من جانب آخر خلال الأيام القليلة الماضية، وقد اشرنا في معرض مقالنا المنشور في 29 كانون الثاني 2022 الى هذا الجدل، وطالبنا بضرورة تدخل المحكمة الاتحادية لحسم الجدل القائم بقولنا "من الأفضل تدخل المحكمة الاتحادية قبل انعقاد الجلسة في السابع من شباط لحسم الجدل حول وجوب حضور الثلثين من عدمه قبل بدء التصويت على اختيار رئيس الجمهورية".
التفسير الجديد للمادة 70 قطع الشك باليقين ضاربا مشروع الأغلبية الوطنية الذي ينادي به التيار الصدري والتحالف الثلاثي (تحالف انقاذ وطن) بالصميم، اذ اصبح من الصعب جدا انعقاد جلسة مجلس النواب لانتخاب رئيس الجمهورية من غير موافقة وحضور الكتل المعارضة وخصوصا كتلتي الاطار التنسيقي والاتحاد الوطني الكوردستاني.
جلسة انتخاب رئيس الجمهورية
بات حضور مالايقل عن 220 نائبا من بين مجموع اعضاء مجلس النواب البالغ 329 نائبا في جلسة انتخاب رئيس الجمهورية ملزما، برغم غياب نحو 15 - 20 نائبا على جري العادة وبشكل دائم بذرائع شتى بينها المرض والسفر والانشغال بمهام أخرى او بسبب عدم أداء القسم او مقاطعة كامل الدورة البرلمانية كما اعتاد عليها بعض قادة الأحزاب والقوى التقليدية.
لذا فأن جمع 220 نائبا لحضور الجلسة الحاسمة لانتخاب رئيس الجمهورية اصبح أمرا صعبا جدا في حال امتناع قوى الاطار التنسيقي وكتلة الاتحاد الوطني الكردستاني عن حضور الجلسة.
الاطار لديه ما يقارب 85 - 88 نائبا بحسب مصادره، والاتحاد الوطني لديه 19 نائبا، يضاف اليهم النواب السنة المعارضين 8 - 10 وعدد الغائبين الذين نوهنا عنهم سالفا ليصبح مجموع الثلث المعطل نحو 127 نائبا كحد ادنى. بمعنى أن الثلث المعطل المطلوب والبالغ نحو 110 نائبا لم يعد صعبا.
لذلك كله فان تشكيل حكومة الأغلبية من دون تقديم التنازلات والتعاطي بمرونة مع الأضداد من قبل التيار الصدري والمتحالفين معه من الحزب الديموقراطي الكوردستاني وتحالف السيادة يكاد يكون صعب المنال.
سيناريوهات الأيام القادمة
ترشحت انباء بوصول رئيس إقليم كوردستان الى بغداد لبدء الجولة الثانية ضمن مبادرة رئيس الحزب الديموقراطي الكوردستاني مسعود بارزاني، وهنا سنكون امام عدة سيناريوهات في غضون الأيام القليلة القادمة من بينها:
1- التوافق الجزئي والمضي بتشكيل الحكومة
ما تم طرحه في اجتماع تحالف انقاذ وطن في الحنانة يوم 31 كانون الثاني بعد اطلاق المبادرة هو ان يتم دعوة الاطار التنسيقي للمشاركة في الحكومة بمنحه 4 - 5 وزارات، على ان يتولى رئيس تحالف الفتح هادي العامري مهمة توزيع هذه الوزارات، ويناط به أيضا اقناع شركائه في الاطار التنسيقي لقبول هذا العرض.
وقد افاد مصدر مطلع بان وفدا رفيع المستوى زار العامري قبل يومين وسلمه عرضا خطيا من تسعة نقاط اولها مشاركة الاطار بنحو 50 نائبا في حكومة الأغلبية ويذهب بقية نواب الاطار الى المعارضة، الا ان العامري رفض هذا العرض من دون مناقشة بقية النقاط.
هذا الرفض أعاد الكرة الى ملعب رئيس إقليم كوردستان لإقناع شركائه في تحالف انقاذ وطن بقبول الاطار التنسيقي دون الخوض في تفاصيل من شأنها ان تؤدي الى فشل الاتفاق، لذلك فأن على تحالف انقاذ وطن ابداء مرونة اكبر فيما يتعلق بعدد الوزرات ومشاركة الشخصيات التي يراها الاطار مناسبة في الحكومة القادمة.
تجدر الإشارة هنا الى ان التوافق مع الاتحاد الوطني الكوردستاني حول منصب رئيس الجمهورية بات هو الآخر ضروريا، اذ من الصعب المضي بالمبادرة من دون الالتفات الى مايطالب به الاتحاد.
ومن المتوقع أيضا تمسك الاطار التنسيقي بالاتحاد الوطني وتبنيه لمطلبه، كي لايجد الإطار نفسه على الأقل دون قوة الاطراف الأخرى داخل توافق قوامه أربعة اطراف، فضلا على رد الاعتبار الى الاتحاد لوقوفه مع الاطار في عدم حضور جلسة انتخاب هيئة رئاسة البرلمان، كذلك تشاركهما العامل الإقليمي الداعم لتماسك الاطار من جهة ودفع الاتحاد الوطني للإبقاء على منصب رئاسة الجمهورية ضمن حصته.
2- غياب التوافق والدخول في الفراغ الدستوري
في حال فشلت المفاوضات بين الاطار وتحالف انقاذ وطن او بين الاطار والتيار، فمن الأرجح ان لاتنعقد جلسة انتخاب رئيس الجمهورية لعدم اكتمال النصاب المنصوص عليه في تفسير المحكمة الاتحادية 220 نائبا، وهذا يعني فشل مجلس النواب في انتخاب رئيس الجمهورية يوم 7 شباط ليستمر رئيس الجمهورية الحالي بمزاولة مهامه طبقا للمادة 72 من الدستور العراقي والتي تنص على "يستمر رئيس الجمهورية بممارسة مهماته إلى مابعد انتهاء انتخابات مجلس النواب الجديد واجتماعه، على ان يتم انتخاب رئيس جديد للجمهورية خلال ثلاثين يوماً من تاريخ اول انعقاد له" والذي يعني الدخول في فراغ دستوري وتعطيل العملية الانتخابية، اذ أن عدم انتخاب رئيس الجمهورية سيعني عدم إختيار وتكليف مرشح الكتلة الأكبر لتشكيل حكومة جديدة. والمفارقة هنا أن الدستور أصلا لم يعالج هكذا خلل وبالتالي سيبقى الفراغ ساريا لمدة غير محددة ولحين توافق الكتل السياسية على عقد جلسة مكتملة النصاب.
من بين تبعات الفراغ الدستوري استمرار كل من رئيس الجمهورية وحكومة تصريف الاعمال بمناصبهم دون رقابة برلمانية اذ لاسلطة تشريعية لمجلس النواب الجديد عليهما، ناهيك عن مخاطر تأخر إعداد وإقرار الموازنة السنوية العامة. وكذلك تباطئ الشروع بالاصلاحات المنتظرة التي كانت السبب الرئيس بالدعوة الى اجراء انتخابات مبكرة والإتيان بحكومة جديدة.
قد يطول الفراغ الدستوري لعدة أشهر كما حصل في لبنان وستكون القوى الفائزة في الانتخابات امام خيارين إحلاهما مر، اما التنازل عن استحقاقها الإنتخابي والتوافق مع القوى الأقل فوزا أو حتى الخاسرة او الذهاب الى اجراء انتخابات مبكرة من جديد.
3- نجاح تشكيل حكومة الأغلبية
بإمكان تحالف انقاذ وطن بذل جهد مكثف للوصول الى تفاهمات مع الكتل الصغيرة والمتوسطة من خلال تقديم ما يكفي من تطمينات وتنازلات لهم لإقناعهم بالحضور في جلسة انتخاب رئيس الجمهورية ليمضي الى تكليف رئيس الوزراء وتشكيل الحكومة الجديدة. لكن البعض يرى بان هذه الحكومة ستكون عرضة للمساومات ومشاكل لا حصر لها، ولن يكون بمقدورها تقديم الخدمات واجراء الإصلاحات وسط معارضة قوية قوامها 140 – 150 نائبا وماتمتلكه من ادوات الإعاقة والعرقلة بينها حشود من المدونين والكتاب والمراقبين والإعلاميين الذين سيراقبون كل حركة وكل قرار ويضعونه تحت المجهر للفحص والتمعن والتشهير.
هذا السيناريو اقرب الى النظرية بدل الواقع وان حصلت فان الحكومة التي تنبثق منها لن تستطيع ان يكتب لها النجاح، خاصة اذا ماحصل خلاف جوهري بين مكونات تحالف انقاذ وطن وبالتالي يذهب الجميع الى انتخابات مبكرة على اغلب الظن.
4- انتخابات مبكرة ثانية
استمرار الانسداد السياسي بين القوى المتنازعة وتعطيل انتخاب رئيس الجمهورية وعدم إمكانية تشكيل حكومة لمدة قد تستغرق 5- 6 اشهر سيضع الجميع أمام خيار العودة الى إجراء انتخابات مبكرة ثانية وهذا بدوره يتطلب الاتفاق على استمرار الحكومة الحالية في مهامها او إعادة تشكيل حكومة توافقية مؤقتة مهمتها اجراء الانتخابات الجديدة مع احتمال تعديل قانون الانتخابات لسد الثغرات الحالية في القانون والنظام الانتخابي بما فيها تبديل المفوضية العليا للانتخابات.
ليس من السهل على القوى السياسية الفائزة وخصوصا مكونات تحالف انقاذ وطن القبول بانتخابات مبكرة الا اذا كانت الأمور ذاهبة نحو الإنهيار الحتمي.
5- الإنهيار والفوضى المحتملة
استحالة التفاهم بين القوى الحاكمة قد تعقد المشهد السياسي والمجتمعي وسط استمرار الضغوطات الداخلية والخارجية، اذ ان المواطن لم يعد بمقدوره انتظار القوى السياسية لتنتهي من تنازعها على المغانم والمكاسب في ظل إستمرار البعض بنهب الثروات فيما تعيش شرائح وطبقات واسعة اشد حالات البؤس والفقر والبطالة وانعدام الخدمات وغياب الامن.
كل ذلك ينذر بعودة موجة الاحتجاجات والاعتصامات الشعبية مجددا لكنها هذه المرة قد تتحول الى صدام حقيقي بين الشارع والطبقة السياسية الحاكمة بعدما استنفذ الشارع خياراته السلمية للمطالبة بابسط حقوقه على الدولة، وقد يؤدي ذلك الى انهيار العملية السياسية برمتها، خصوصا اذا سادت الفوضى وبدأت المدن تسقط الواحدة تلو الأخرى.
توقع مثل هذا السيناريو مرده ان الطبقة السياسية مازالت مصرة على عدم ادراك وتدارك ماتعانيه الطبقات الفقيرة وجيوش العاطلين من الباحثين عن فرص عمل الى جانب استمرار تردي مستوى الخدمات الاساسية وتهالك البنى التحتية وانهيار قطاعات مهمة بينها الصناعة والصحة والتعليم.
قد تقود ردود فعل الشارع المنتفض الى اجراء انتخابات مبكرة تداركا للانهيار المتوقع وهذا ما حصل في عام 2019 عندما استقالت حكومة عادل عبد المهدي وتبني اجراء الانتخابات المبكرة، مع الفارق هنا بان الانتخابات المبكرة هذه المرة لن يتأخر اجراءها لمدة سنتين كما جرى مؤخرا.
طريق الحل
على القوى السياسية تدارك خطورة المرحلة، وان الاوضاع بات تمضي من سيء الى اسوء وان الوقت لم يعد متسعا، بالإضافة الى ان تفسير المحكمة الاتحادية الأخير قد جعل المضي بحكومة الأغلبية الوطنية ضربا من المستحيل من دون التوافق مع الكتل المعارضة وبالأخص كتلتي الاطار التنسيقي والاتحاد الوطني الكوردستاني. لذا بات من الأصوب للجميع التوافق الجزئي اذ ان هناك كتلا تريد الذهاب الى المعارضة وهناك كتلا كبيرة تريد المشاركة. مشاركة القوى السياسية الكبيرة ممكن ان تمضي بتشكيل اتفاق خماسي (التيار الصدري والاطار التنسيقي، تحالف السيادة (عزم وتقدم) والحزب الديموقراطي والاتحاد الوطني) ببرنامج موحد واضح المعالم ليتحملوا معا المسؤولية الانتخابية امام الناخب العراقي وان يكون الكل مسؤولا عن الفشل او النجاح مستقبلا.
لعل وجود رئيس إقليم كوردستان نيجيرفان بارزاني في بغداد في إطار المبادرة يعد فرصة مناسبة لمنع استمرار الانسداد السياسي فبخلاف معالجة هذا الانسداد سنكون أمام الدخول بفراغ دستوري قد يفضي الى ما لايحمد عقباه، عندها سيصبح الفائز خاسرا والخاسر اكثر خسارة.