يمكن تعريف الدولة بانها منظومة معقدة لمجموعة من الادارات والانظمة وتعمل جميعها ضمن سياقات مرسومة ومجدولة ، وتفترض بهذه السياقات التي تقوم عليها الدولة ان تكون بعيدة عن الاجتهادات في مسالكها الاجرائية ومنمقة ومنضبطة في سلوكياتها الادارية . فعلى هذا التعريف تقوم الدولة مقام الشخص الواحد ولها شخصيتها الاعتبارية ، وتعمل الدولة في حال ضبطت تعريفها وفق المبدأ التناسقي (Harmonic Concept ). فترى دولًا عملاقة في المساحة والنفوس ومع ذلك لن تجد في هذه الدولة اي فوضى في مساراتها وترى دولاً بحجم الحمصة مقارنة بتلك الدول العملاقة ولكنها تحتفي بالفوضى.مع العلم ان اساس تقدم الدول تعتمد على الاستقرار في سلوكية ومسالك الدولة واساس هذا الاستقرار يعتمد على مصطلحين مهمين هما التراكم والتراكب ؟
تراكم الخبرة .
هي محصلة تجمع مجموعة من الاستنتاجات والاقرارات المبنية على الاستقراءات الاتية من خلال امور نظرية وعملية تعرض لها الفرد في مسيرة حياته المهنية سواء كانت هذه الامور جيدة كمحصلة ام سيئة بالنتيجة ، وهي اي تراكم الخبرة تكون منعكسة على الافراد وليست على المؤسسات وانما تكون المؤسسة ذات خبرة من خلال خبرة افرادها بتعبير اخر عند زوال الخبرات تزول خبرة هذه المؤسسة او تلك ،وعلى هذا الاساس نسمع دائما بمؤسسات عريقة خبت بعد فترة من تموضعها لمكانة مهمة في نطاق اختصاصها وذلك نتيجة فقدانها لخبراتها وخبرائها ، كما يمكن انتقال تراكم الخبرة بين الافراد من خلال التعامل ضمن متسلسلة زمنية غير منقطعة .
اما تراكب الادارة .
فالموضوع مختلف كلياً فهذا الموضوع يعتمد على مجموعة من النظم والقرارات الادارية وهيكليات رصينة غير منعكسة على الافراد كل بحد ذاته وانما تنعكس على كل المجموعة العاملة ضمن التراكب الاداري وعلى هذا الاساس يتم انتاج هيكل مصمت للادارة الفذة وتدور افلاكها ضمن هذا الهيكل من خلال سلوك اداري - معرفي وحسب جزئيات هذا الهيكل .
مما يعني ان تراكم الخبرة هي شخصيات معنوية فعلية في حين تراكب الادارة تكون شخصية معنوية افتراضية . وبتجليس الخبرة على التراكب تصنع (Create) دولة ذات شخصية معنوية اعتبارية ملموسة ومستقرة ومزدهرة بعيدة عن انعدام الرؤية و تنأى بنفسها عن القرارات الارتجالية.
ماذا في العراق ؟
هذا السؤال نطرحه في جميع مقالاتنا ذلك اننا ناخذ دور النقد البناء وتشخيص العلل في الدولة وذلك من خلال تراكم الخبرة في هيكلتها الادارية للدولة . والذي نرجو في مثل هكذا مقالات ان تكون هناك رؤى صحيحة باتجاه صنع الدولة.
دأبت الدولة العراقية منذ نشأتها على بناء تراكب للدولة قبل ان يتم تراكم الخبرة معتمدين بذلك على وجود خبرات اجنبية في حال تعثر وتعذر تراكب الادارة في صنع الدولة ، حيث كانت هذه الخبرات تساهم بصورة فعلية في كثيرة من مفاصل الدولة وهيكلتها الادارية وعلى هذا الاساس تم تفادي الكثير من المشكل مع بقاء اشكاليات اخرى في مجملها هي نتاج قضايا شخصية وقرارات فردية لاعلى السلم الاداري في البلاد على طول خط الدولة العراقية ،وخاصة بعد اعلان الجمهورية كنتيجة لانقلاب ١٩٥٨ وايجاد جزئيات ادارية لم تتراكب مع هيكل الدولة الاداري الى الان، ومع كل انقلاب تتقصف جزء من تراكبية ادارة الدولة وتختفي افراد من تراكمية الخبرة.
العراق الان .
البلاد بعد ٢٠٠٣ وتغيير النظام السياسي والذي سبقه تغيير وتفكيك التراكب الاداري واختفاء الخبرات لعدة اسباب (لن نخوض فيها في هذا المقال) وكنتيجة لما حصل اصبح العراق (دولة مع وقف التنفيذ ) بكل ما تحمله هذه الجملة من معنى فمع اختفاء تراكم الخبرات اضطر به القائمين على الامر بجلب اشخاص ليست لديهم تراكمية الخبرة في المفاصل التي يعلمون بها ، ومع تغيير الرؤية الادارية انفرط التراكب الاداري للدولة ومع وجود الارهاب وفعالياته في العراق وامتداد اذرع العشرات والعشرات من مختلف المؤسسات الدولية والمخابراتية ادت بالنتيجة الى انتاج دولة هشة بقرارات معومة في الكثير منه ،ولكي لا نغبن الجهود فان الغالبية من القائمين على الامر و الحكومات المتعاقبة بعد ٢٠٠٣ ارادت وبكل جهد وعملت على ايجاد حلول ومخارج لهذه الازمة والازمات المتتالية والعمل بصورة جدية في المحافظة على افراد اصبحت لديهم تراكمية الخبرة وعلى العمل على ايجاد وصلات لاعادة تراكب الادارة لصنع الدولة رغم وجود الضغوطات السياسية في اختيار الشخوص وتركز المصالح ضمن وصلات الادارة المعيقة للتراكب، ومع مقاومة لتلك الضغوطات التي كانت الغرض منها التي خضوع القائمين على الامر والتي قد كانت تودي في بعض الاحيان بتلك الخطوات تارة الى الامام واخرى الى الوراء ،ومع ظهور التظاهرات المطلبية والتي كانت بين ثناياها ايضا مفهوم التراكم والتراكب في سبيل استقرار البلاد الا ان شدة هذه التظاهرات خلقت ارباك كبيراً في مفاصل الدول وصولًا الى استقالة الحكومة والاتيان بحكومة جديدة ولتستمر جدلية تراكمية الخبرة وتداخلها مع تراكبية الادارية .
ولايفوتنا ان نذكر بعض الاشكاليات الاخرى في الدولة العراقية وهي انعكاس العمل بهذين المفهومين الاساسين في الدولة ، فبدلاً من تراكم الخبرة اصبح لدينا تراكب الخبرة وهذه اشكالية فعلية لان الخبرة لا تتراكب فوق بعضها البعض حيث يعني تراكب الخبرة مثلا ان يقوم الطبيب مقام المهندس في (القرار )وهذا خطا فادح ، وبنفس الوقت تحول تراكب الادارة الى تراكمها مما خلق طبقة من افراد الدولة غير قابلة على التواصل مع مختلف مؤسسات الدولة وتقوقعها ضمن مؤسسة واحدة مما خلق مراكز قرار مختلفة وعديدة لنفس الموضوع.
ولكل ما سبق نرى من الضرورة بمكان على الاطراف التي سوف تقوم ببروزة الدولة ان تاخذ بنظر الاعتبار في شخوصها ومرشحيها مبدء تراكم الخبرة للتوافق مع تراكب الادارة لتنتج دولة مستقرة وتعمل وفق تناسق عالي في مختلف مرافقها بغير ذلك فان العراق اصبح متخماً بترسبات هذه المعضلات والتي سوف تاتي على ما تبقى من الاخضر واليابس في البلاد في حال استمراره.