خلاف التيار والإطار ينذر بصراع يتهدد العراق

فرهاد علاء الدين
08/08/2022

اقتحمت حشود التيار الصدري في غضون أسبوع واحد المنطقة الخضراء وصولاً إلى مبنى مجلس النواب العراقي مرتين متتاليتين معلنة اعتصامها الذي أربك المشهد السياسي على نحو أثار قلق كل الأطراف السياسية مجتمعة إلى جانب الرئاسات الأربعة بضمنها مجلس القضاء الأعلى، مما دفع رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي إلى تعليق أعمال مجلس النواب لأجل غير مسمى عبر بيان أصدره في 30 تموز الماضي.
في حين طالب رئيس مجلس الوزراء مصطفى الكاظمي القوى المشاركة بالعملية السياسية بضرورة عقد اجتماع طارئ وجامع حول مائدة حوار مفتوحة. هذه المطالبة لقيت ترحيباً من معظم القوى باستثناء زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر الذي رفض التحاور مع من أسماهم بـ"الوجوه القديمة والفاسدين" داعياً إلى إجراء انتخابات مبكرة بشرط قيام البرلمان بحل مجلسه الحالي أولاً.
الإطار التنسيقي من جانبه كثف على نحو متسارع مشاوراته مواصلاً اجتماعاته الماراثونية التي بلغت اكثر من 107 اجتماعات منذ إطلاقه! 

حل البرلمان والانتخابات المبكرة
وبلغ الخلاف حول الانتخابات المبكرة وحل البرلمان بين الإطار التنسيقي والتيار الصدري أشده إثر إطلاق زعيم التيار الصدري نداءه في 3 آب الجاري بهذا الصدد.
أفاد مصدر مطلع بأن الصدر يريد إجراء الانتخابات المرتقبة بذات القانون والنظام الانتخابي النافذين، والإبقاء على المفوضية العليا للانتخابات الحالية في ظل الحكومة الحالية وإشراف أممي كما في انتخابات 2021. إلى ذلك أكد الإطار التنسيقي بأنه لا يمانع من حيث المبدأ إجراء الانتخابات المبكرة بشرط "تحقيق الإجماع الوطني حولها وتوفير الأجواء الآمنة لإجرائها" بالإضافة إلى تشكيل حكومة جديدة مع تعديل قانون الانتخابات واختيار مفوضية عليا جديدة للانتخابات. ذلك بأن قوى الإطار مجتمعة كانت قد اتهمت الحكومة الحالية بالتلاعب بنتائج انتخابات تشرين الأول 2021 مشددة على منع تكرار التجربة في ظل هذه الحكومة.
التيار الصدري فقد حضوره الكبير والمؤثر داخل مجلس النواب بعد الاستقالة الجماعية لنوابه في 12 حزيران 2022، والذين تم استبدالهم بنواب جدد معظمهم ينتمون للاطار التنسيقي في جلسة استثنائية لمجلس النواب في 23 حزيران 2022، وبذلك انحسر الحضور السياسي للتيار الصدري مفتقداً إمكانية فرض القرارات على مجلس النواب أو على القوى السياسية، ذلك أن مطالب زعيم التيار لا تجد صدى لدى أكثرية القوى السياسية حتى وإن لم يفصحوا عن ذلك بشكل واضح وصريح. كما أن القرار بحل البرلمان من عدمه يبقى بيد قوى الإطار التنسيقي.
على صعيد متصل طالب زعيم التيار الصدري بإزاحة من أسماهم بالوجوه القديمة من الأحزاب الشيعية، ويقصد بها القيادات السياسية الشيعية التي تولت إدارة شؤون البلاد من 2003 إلى يومنا هذا، وابعادها عن الساحة السياسية، والمتهمة بالفساد وتسببها بالخراب الذي لحق بالعراق طيلة سنوات حكمها بحسب الصدر. قوى الإطار بطبيعة الحال لا توافق الصدر فيما ذهب إليه من اتهامات، مؤكدة على تمسكها بحضورها وعدم تخليها عما تسميه بمسؤولياتها الملقاة على عاتقها، وهي غير مستعدة لترك الساحة السياسية بمجرد طلب لزعيم تيار سياسي. بل أنها ترى العكس تماماً فهي تعتقد بأنها اليوم في أحسن حالاتها وأنها تمثل الشرعية البرلمانية والدستورية، وتمتلك الأغلبية داخل مجلس النواب، لذا ليس بإمكان التيار الصدري تغيير هذا المشهد من خلال تعطيل عمل الدستور والقانون أو تعطيل عمل مجلس النواب لوقت طويل. فضلاً عن اعتقادهم بأن استحقاقات البلد أكبر بكثير من أي شخص أو طرف سياسي إزاء كل القوى المشاركة.

التيار أمام خيارات صعبة
من بين الأسئلة الأكثر إلحاحاً التي تتردد على لسان أغلب المراقبين والمهتمين بالشأن العراقي يتمثل بالاستفهام عما سينتهي إليه الوضع الحالي أي وماذا بعد؟!
عمد زعيم التيار الصدري إلى رفع سقف مطالبه تدريجياً، لكن خطوته الأخيرة بدخول مجلس النواب كانت بمثابة قفزة كبيرة ونوعية قد يصعب تكرارها والتي تخطت خياراته اللاحقة. إذ مع مرور الوقت، ستأخذ التظاهرات الجارية أمام مجلس النواب طابعاً تقليدياً ومشهداً روتينياً سيعتاد عليه الشارع والإعلام، لا بل قد ينتاب هذا المشهد الفتور جراء التعب والإرهاق اللذين ستعاني منهما الجماهير المعتصمة وسط اشتداد موجة الحر التي بلغت درجة الغليان، إلى جانب صعوبة الاستمرار في تعطيل مصالح البلاد والعباد عبر توقف عجلة التشريعات والرقابة وإقرار الموازنة السنوية وإدارة شؤون الوزارات والمؤسسات، إلى جانب صعوبة الإبقاء على حالة الشلل التي تنتاب العاصمة جراء تعطل حركة الشارع ومقار مراكز القرار عن أعمالها وما يلازم الناس من قلق وخوف وتوجس مما سيؤول إليه الوضع الراهن، بما في ذلك إمكانية التصادم والنزاع بين قواعد الأطراف السياسية المتنازعة.
بعض المراقبين يعتقدون بأن على التيار الصدري إذا أراد إدامة حراكه الشعبي، فعليه تصعيد خطواته بما يوازي في حجمها خطوة تعطيله لمجلس النواب، كالدخول إلى القصر الحكومي أو مقر مجلس القضاء على سبيل المثال، والتي كاد أن يقدم عليها حينما دخلت حشوده حدائق مبنى القضاء يوم 30 تموز، أو البدء بتظاهرات في باقي المحافظات لشل حركة البلد وإرغام القوى السياسية على تلبية مطالبه. فمن دون التصعيد لن يكون أمام زعيم التيار الصدري سوى خيارين، أولهما البدء بحوار جاد مع الطبقة السياسية بغية التفاهم على بعض النقاط المشتركة على وفق مبدأ التنازلات المتبادلة وصولاً إلى تفاهمات وحلول مشتركة بضمنها طبعاً الاتفاق على الانتخابات المبكرة أو عودة الصدريين إلى العمل السياسي في البرلمان أو خارجه. والخيار الثاني هو إنهاء التظاهرات بانتظار تشكيل حكومة جديدة ليتحول إلى معارضة شعبية في العام القادم إذا فشلت الحكومة في أداء واجباتها.
وقف المجتمع الدولي موقف الحياد لما حصل في اقتحام مجلس النواب ووصف المراقبون موقفهم بالخجول مقارنة بحجم الحدث الذي هو إيقاف منع قلب العملية الديموقراطية (وهو البرلمان) من النبض والعمل، وهذا الموقف يتعارض مع مبادئهم الداعية للديموقراطية ولن يقبلوا به في بلدانهم إن حصل. وهذا الموقف قد يتغير بشكل لن يكون بصالح التيار الصدري إذا استمر الاعتصام داخل مجلس النواب ومنعه من الانعقاد.
جدير بالذكر أن التصعيد من التيار الصدري قد يقابله تصعيد من قوى الإطار والذي قد يفضي إلى صدام بين جماهير الطرفين وقد يتطور الأمر إلى صدام مسلح بين الفصائل التابعة للطرفين وهذا ما يخشاه الجميع.

الإطار وعقدة الحراك
ثمة خلافات جوهرية مازالت تعتري أركان الإطار التنسيقي والتي تبدو واضحة في مواقفه وتوجهاته إزاء ما يتعلق بالتعاطي مع التيار الصدري، إذ أن قيادات الإطار تختلف في نظرتها وعلاقاتها مع التيار بشكل عكسي، حيث يعتقد البعض بضرورة الانفتاح على الصدر واستيعاب طروحاته والتكيف معها والاقتراب منه قدر الإمكان، فيما يرى البعض الآخر بأن لا جدوى من التحاور مع الصدر كونه لا يريد التفاهم معهم أساساً. حتى المرحلة التي شهدت توحّد مواقف قوى الإطار في مواجهة التيار الصدري بعد إعلان نتائج انتخابات 2021 لم تكن قاسماً مشتركاً يجمعها على نحو دائم بقدر ما كانت محاولة فرضتها الضرورة القصوى بسبب المخاوف التي انتابت تلك القوى من تنامي قوة التيار بعد إعلان نتائج الانتخابات بفوزه الساحق، مما دفعها أي قوى الإطار إلى ضرورة إيقاف المد الهائل والسريع للتيار الصدري ومنعه وحلفاءه من تشكيل حكومة تستبعد الإطار. وقد تمكن الإطار هنا من تحشيد أكثر من ثلث مجلس النواب للحيلولة دون انعقاد جلسة انتخاب رئيس الجمهورية. إلا أن وحدة الصف هذه سرعان ما تلاشت بعد استقالة نواب التيار الصدري الجماعية، ليحل محلها التنازع بين قياداته على منصب رئيس الوزراء.
يضاف إلى ذلك افتقار الإطار التنسيقي إلى سرعة المبادرة وعدم المبادأة بالتحرك بعد انسحاب التيار الصدري منتظراً عودة مجلس النواب من العطلة التشريعية ومن بعدها انقضاء عطلة عيد الأضحى، وانشغاله بسلسلة اجتماعات مطولة للاتفاق على مرشح لمنصب رئيس الوزراء في 25 تموز 2022، أي بعد 32 يوماً من استبدال نواب التيار الصدري. مما دفع التيار الصدري إلى استثمار هذا التباطؤ الذي استغرق شهراً كاملاً لإعادة تنظيم صفوفه وإعداد الخطط البديلة لانسحابهم وكيفية التعامل مع الواقع الجديد خارج الحلبة السياسية، والذي حال دون تمكن الإطار من عقد جلسة انتخاب رئيس الجمهورية، والتي كان بمقدوره عقدها في حينه وبالتالي تحقيق ما يصبوا اليه.
بالرغم من مرور شهرين على انسحاب التيار الصدري من مجلس النواب، لم يتمكن الإطار التنسيقي من التقدم إلى الأمام سوى خطوة واحدة وهي اختيار مرشح لمنصب رئيس الوزراء، ومن الواضح بأن هذه الخطوة لوحدها (وإن كانت خطوة كبيرة ومهمة) ليست كافية لتشكيل الحكومة، إذ يجب أن تتبعها خطوات عملية أخرى ملموسة وسريعة مثل انتخاب النائب الثاني لرئيس مجلس النواب وبدء التفاوض مع القوى الوطنية لعقد جلسة انتخاب رئيس الجمهورية.
يرى مراقبون أن الإطار التنسيقي كتلة باتت تفتقر إلى حراك متنام وبناء استراتيجية لمواجهة الخصم، وتعتمد في عملها على أساس رد الفعل لما يقوم به الصدر، ولهذا السبب لا تراها تتحرك على القوى السياسية لتشكيل الحكومة علماً ان تحالف السيادة على سبيل المثال كان على أتم الاستعداد للتعامل معها أول أيام انسحاب التيار الصدري، ولكن بسبب بطء الاستجابة، ومن ثم التهديدات التي أطلقتها بإزاحة رئيس مجلس النواب من منصبه كان سبباً لأن يشعر تحالف السيادة بمخاوف من التوافق مع كتلة الإطار، مما دفعه لتنسيق مواقفه مع الحزب الديموقراطي الكردستاني، والعودة ثانية للتحالف مع الصدر بالرغم من مغادرته مجلس النواب.

عوامل الضغط قد تغير المعادلة
اعتادت الطبقة السياسية الحاكمة في العراق العمل تحت ضغط الأزمات الحادة، ومثل هكذا ضغوطات قد تكون داخلية أو خارجية. على سبيل المثال، تمكنت مكونات الطبقة من رص صفوفها في مواجهة داعش عام 2014 بعد ان أصدرت المرجعية في النجف الأشرف فتوى الجهاد الكفائي. كما جرى ترشيق الوزارات وترشيد الاستهلاك وغيرها من قرارات عام 2015 تحت ضغط التظاهرات الصدرية آنذاك. وليس استقالة الحكومة عام 2019 بعد تظاهرات تشرين من ذلك ببعيد، كذلك الحال مع إجراء الانتخابات المبكرة عام 2021. هذه الأمثلة وغيرها كلها أدلة بان هذه القوى تلجأ مضطرة إلى اتخاذ القرار تحت وقع الضغوط داخلية كانت أم خارجية، الإقليمية منها أو الدولية.
ومن بين عوامل الضغط الداخلي التي قد نراها في قادم الأيام ربما تتجلى باتساع التظاهرات لتشمل المحافظات بمشاركة جماهير من غير قواعد التيار الصدري، وبذلك تصبح كل القوى السياسية تحت ضغط يجبرهم على اللجوء لتقديم التنازلات والاتفاق على نحو مفاجئ. العامل الآخر هو الاقتصادي، إذ ان الحكومة الحالية هي حكومة تصريف أعمال ولا يمكن لها إطلاق المشاريع وتوفير فرص العمل ودفع المستحقات، في ظل مجلس نواب معطل وليس بإلامكان تمرير قوانين بديلة كما حصل مع قانون الأمن الغذائي، علماً ان الأموال التي تم تخصيصها من خلال القانون بدأت بالنفاد. بالاضافة إلى ان الأحزاب الحاكمة تتحمل مصاريف كبيرة لتشغيل ماكنتها الحزبية وتمويل قواعدها ومكاتبها وفروعها وهي التي تعودت على مد يدها للأموال العامة، فعند انتهاء المبالغ المرصودة من خلال قانون الأمن الغذائي، ستحتاج تخصيص أموال جديدة وهذا قد يصبح عاملاً مهماً يدفع الأحزاب إلى الاتفاق لانها قلما تختلف فيما بينها على تقاسم المغانم المالية.
العامل الخارجي هنا ينقسم إلى قسمين، الأول يتمثل بالأحداث الجارية في المنطقة إذ ان الدول الإقليمية قد تدخل في صراعات كبيرة وقد تتصاعد حدة هذه الخلافات ليصبح العراق في عين العاصفة كما نراه بالغالب عندما تشتد المواجهة بين إيران وإسرائيل أو إيران ودول الخليج، وكذلك في حال فشلت مباحثات فيينا حول البرنامج النووي الإيراني مع المجتمع الدولي. القسم الآخر يطل برأسه مع تجدد الضغوطات الدولية، إذ ان الكثير من الدول العظمى لديها مصالح كبيرة في العراق لذا نراها حريصة على عدم ذهاب العراق نحو المجهول، مما يدفعها للتحرك على معالجة وتجاوز الانسداد القائم بشكل أو بآخر لان مصالحها الاقتصادية والأمنية والعسكرية سيطالها خطر استمرار الانسداد السياسي أو انهيار العملية السياسية برمتها بشكل قد يؤدي إلى تهديد مصالحها.
من المؤكد ان الوضع لن يبقى على ما هو عليه الآن، إذ ان التغيير في الموقف السياسي قادم، سواء كان عامل التغيير داخلياً أم خارجياً. قد تتفق القوى السياسية على إيجاد مخرج للأزمة السياسية والانسداد الحالي وهذا سيعني تشكيل حكومة انتقالية والذهاب نحو انتخابات مبكرة أو تستمر الخلافات من دون حلول، وعندها يجب على القوى السياسية ان تدرك جيداً بانها غير منفصلة عن العالم. والتغيير القادم قد يكون نحو الأحسن أو الأسوأ، الأسوأ قد يكون حرب الفصائل المسلحة فيما بينها، أو نزاع المكونات لأن الكورد والسنة لا يمكنهما انتظار اتفاق وتوافق القوى السياسية الشيعية إلى الابد، لان جماهيرهما تنتظر الخدمات والاستحقاقات المترتبة على أحزابهما الحاكمة، فاذا كانت القيادات الشيعية غير قادرة على تحمل المسؤولية وتلبية حاجات مواطنيها وناخبيها، فلا يمكن لمواطني المحافظات السنية والكوردية أن يتلظوا بنار الانتظار أو التقاعس، مما سيؤشر بداية النهاية للعراق الحديث الذي عرفه العالم منذ عقود خلت. وهنا يجب ان نسأل القيادات الشيعية، هل تريدون تقسيم العراق لانكم غير قادرين على الاتفاق على الحصص والمناصب؟ أليس من الأفضل لكم وللعراق ان تتفقوا على ما هو خير البلاد والعباد بدلاً من الاختلاف والتنازع والصراع على خير لفئة قليلة لا تمثل سوى قياداتكم وأحزابكم حتى من دون قواعدكم؟ فما بالكم بملايين تسد عين الشمس وهي تنتظر من يلتفت إليها بعين المسؤولية الوطنية والإنسانية والأخلاقية!