الانفصال عن الواقع وعلاقته بتنامي الأزمات

د. طورهان المفتي
12/08/2022

حينما كان المراسل الحربي الاميركي  (توم ليا) يصور ويوثق احداث بعض المعارك في الحرب العالمية الثانية لاحظ وجود بعض الظواهر الغريبة في طريق نظر او تحديق بعض الجنود فقام (توم ليا) وكان يعرف عنه انه فنان ورسام ايضا فقام برسم  لوحة لجندي ضمن قوات مشاة البحرية الاميركية ،وركز في رسمه على عيني الجندي، وذكر هناك تفاسير لهذه الحالة من النظرة المستقيمة او الشاردة في الافق، وتم تعريف هذه الحالة علمياً بنها حالة الانفصال عن الواقع ،وقد تكون هذه الحالة من ابتكارات الدماغ البشري لكي يحافظ على الفرد من الانهيار في ظل ما يعيشه من اهوال كبيرة و ذات تاثير عميق في وجدان ذلك الفرد فيشرع الدماغ الى حالة التحديق و الشرود للحيلولة دون تفسير تلك الاهوال والاحداث والتي قد تكون نتيجتها انهيار الفرد او حتى القضاء عليه، بتعبير اخر هي طريقة للخروج والقفز الى الامام او الجوانب او حتى الى الخلف والغاية هي الانفصال عن الواقع. 
اما تسمية هذه الحالة ب(نظرة الالف ياردة او تحديقة الالف ياردة ) فاتت في وقت متاخر عن توثيق المراسل الحربي (توم ليا) لهذه الحالة.

هل نظرة الالف ياردة من نتاجات الحروب ؟
في الحقيقة وكما ذكرنا مسبقا شخصت هذه الحالة في الحرب العالمية الثانية ولكنها قطعاً ليست مخصصة لذلك الافراد الذين يخوضون الحروب ويكونون على خط التماس وفي خضم الملحمة العسكرية والتي سوف تخلف بين الجنود قتلى وجرحى ومشاهد تقشعر لها الابدان.
فحالة (نظرة الالف ياردة) وجدناها في كثير من الاحيان ومجالات الحياة المختلفة ،وللانصاف تختلف هذه الحالة من شخص الى اخر فقد نجد هذه الحالة في طالب في الامتحان حين يختفي من ذاكرته ما اجتهد في دراسته قبل يوم الامتحان فنراه يشرد ويبدا في  التحديق عن غير هدى في احدى حيطان قاعة الامتحان او ان ياخذ بالقلم ليرسم دوائر  و شخابيط غير مفهومة ليستمر الطالب في عملية (قتل وقت ) الامتحان وبدون هدى . كذلك يمكن ملاحظة ذلك لدى بعض المرضى الذين يتم تبليغهم من قبل الطبيب بخطورة المرض وتداعياته المهلكة فيتحول المريض الى نفس الحالة من ( نظرة الالف ياردة) لفترة من الزمن الى ان يعود الدماغ الى استيعاب ما يحصل فيرجع المريض الى الحالة الطبيعية .

السياسة ونظرة الالف ياردة.
الشيء المميز في السياسة انها لا تقبل الشرود ولا تعطي مجال قيد انملة لظاهرة ( نظرة الالف ياردة) تلك ان السياسة هي فن الممكن واقتناص الفرص بالتالي اي شرود او اي انفصال عن الواقع سوف تاتي بنتيجة عكسية وفورية للسياسي وسيكون تداعيات ذلك وخيمة على السياسة بصورة عامة وعلى السياسي بصورة خاصة .، فالسياسة هي مزاولة  الاستيقاظ الدائم واجراءات العمل والتفكير المستمر وايضا السياسة  هي  بكل معنى الكلمة التفنن في حياكة الاحداث والمقتضيات والتفاصيل للخروج بنتيجة ايجابية والفوز في السجال والتنافس السياسي.

العراق ونظرة الالف ياردة
المطلع على الوضع العراقي من جميع نواحيه سيجد هناك عشرات بل مئات من حالات (نظرة الالف ياردة) فكما ذكرنا سابقاً فان التعريف البسيط لهذه الحالة هو الانفصال عن الواقع وفعلياً يتجلى هذا التعريف في البلاد .
على سبيل المثال ما يحصل في موضوع الطاقة الكهربائية ( والاشكالية لعقود من الزمان ) فالجميع لديهم انفصال عن الواقع بصورة واضحة ، فالمواطن في بعض الاحيان عند وجود الطاقة الوطنية يقوم بتشغيل جميع الاجهزة الكهربائية حتى عند عدم الحاجة اليها وهذا انفصال عن الواقع الذي يقول  بالترشيد لكي تستمر الطاقة الكهربائية في تدفقها ،القائمون على الامر يقولون لدينا تزويد بكذا ساعة والحقيقة غير ذلك كلياً واقل من ذلك بكثير  والسبب الانفصال عن الواقع والاعتماد على ارقام نظرية و مكتبية، ويكون هناك تصريح بدخول كمية من الطاقة الاضافية الى الخدمة ولايتم مقارنة هذه الكمية من الطاقة مع زيادة الحاجة في البلاد ليكون انفصال اخر عن الواقع ، يتم نصب محطات توليد وبعد ذلك يكون هناك معاناة لتوفير الوقود وهذا انفصال اخر عن الواقع ، بالتالي فان نظرة الالف ياردة (زاهية )في هذا المجال .
مثال اخر هو المشاريع السكنية، فالجميع يعلم ان العراق بحاجة الى عدة ملايين من الوحدات السكنية فماذا لدينا من مشاريع ، تقوم الدولة بالتشجيع للاستثمار في هذا المجال ويكون هناك روتين قاتل لمنح الاجازة و لتخصيص الارض ( عندما كنت رئيساً للجنة تخصيص الاراضي نظرنا وخصصنا حوالي ٢٥٠٠ قطعة استثمارية في غضون عشر سنوات والمستلم الفعلي لم يتجاوز 20٪؜ في تلك الفترة بسبب الروتين والبيروقراطية وسوء النية في التعامل مع الاستثمار في دوائر الدولة المختلفة خارج اللجنة ) فهذا انفصال عن الواقع بصورة مريرة في تأييد الاستثمار وتعقيد اجراءاته بنفس الوقت  ، وتاتي الدولة في اتجاه اخر لتمنح قطع اراضي سكنية للمواطنين  ليقتل بذلك المشاريع الاستثمارية السكنية فالذي لديه قطعة ارض سوف لن يذهب الى المجمعات الاستثمارية وبذلك نخلق مشكلة للمستثمر المتلكىء اساساً ، وتكون هذه القطع الممنوحة للمواطنين في مناطق لاتوجد في غالبيتها خدمات و القائمين على الامر لا يتمكن من ايصال الخدمات الضرورية كفتح الشوارع ومد خطوط اسالة المياه وخطوط الكهرباء بسبب الاشكالات الاقتصادية للدولة وهذا انفصال اخر عن الواقع.
مثال اخر الدولة تشجع فتح المشاريع الصناعية والزراعية والاستثمارية وايجاد فرص عمل خارج نظم الدولة وتقوم بنفس الوقت بتعيين الالوف بدون ان تكون هناك دراسة فعلية لحاجة السوق او مرافق الدولة الى الاختصاصات ، واستمرار تخريج الالوف  من الجامعات والكليات باختصاصات  مشبعة بها الدولة لتكون نظرة الالف ياردة سيد الموقف هنا ايضاً.
اما في  الجانب السياسي فالتصريحات لبعض الساسة تشير الى انفصال عجيب عن الواقع والى نظرة الالف ياردة بصورة متفانية ولاحاجة للتفصيل هنا فاي متابع حصيف سوف يجد مثل هذه الحالات.

ماهو الحل في البلاد
العراق يمر بفترة حرجة جدا والحكومات المتتابعة عملت وتعمل على تخفيف الصدمات بسبب تراكمات كثيرة  وما موجود في البلاد عرضة للانهيار بسبب تلك  التراكمات التي هي على شكلين ، تراكمات مستمرة منذ الثمانينات للقرن الماضي وتراكمات بعد التغيير في سنة 2003 . فالبلاد بحاجة الى تفكيك هذه التراكمات المتراكبة فوق بعضها البعض اولاً وايجاد حلول لكل منهم على شكل متتالية حسابية لضمان الجهد والعمل المتوازن ثانياً ، وهذا لايكون الا من خلال دولة قادرة على ادارة ملفاتها  بنظرة تفصيلية من خلال مشاريع (استنهاض العراق  ) ( الاقتصادي - المجتمعي ) و بوجود اشخاص اكفاء  لا يخشون الخوض في الواقع لغرض ايجاد حلول للمعضلات ولايملكون نظرة الالف ياردة ويمتلكون قابلية تحمل استثنائية ،وبغير ذلك فان العراق لن يغادر سلسلة الأزمات التي تعصف به وتشظيها بوما بعد آخر.